وأوضح أن المستوطنين في المدن اليوم أكثر من الصحراء ، لأسباب كثيرة بعضها من أجل العمل أو التعليم أو غيرها ، مبينا أن أعداد القاطنين في الصحراء في تناقص مستمر. وتابع:لم يبقَ منهم سوى عددٍ بسيط جدًا فضّلوا حياة البادية في الخيام وسط الصحراء في أماكن متباعدة عن بعض بخلاف ما كان في الماضي وما كانت تشهده حياتهم من التفاف بعضهم حول بعض ، تسودهم الألفة والمحبة وتجمعهم صلة الدم والقرابة, واصفا منازلهم اليوم بأنها أطلالا وخرابا يعلوها الغبار لم يبقى منها إلا ذكرياتها العطرة ، وشواهدها الوثائقية لحياة البدوي قديما ،والكرم والفروسية التي اشتهروا بها ، مبتعدين عن البذخ والإسراف كما هو الحال اليوم - على حدّ وصفه -. "المشتى" و"الخربوش".. بيوت البدوي في الصحراء | قل ودل. ويتحدث البقمي سائرا بين الأطلال ، مشيرا بيده إلى أماكن جلوسهم قديما ، ومكان " الشبة " - ويقصد موقد النار وقد اجتمع الجيران في أمسية عامرة بقصص اليوم وحديث الشجعان في الحرب ، وقصص صيدهم ، تتقدمهم القهوة العربية مع التمر المخلوط بالسمن في دلالة على غاية الكرم. ويتبادر حمدي البقمي في هذا الموقف بالقول:على الرغم من صعوبة حياة البادية، وما يحفها من مخاطر وعناء، إلاّ أنني لن ولم أفكر في تبديلها بحياة القصور والحيطان؛ لأنها تذكرني بعبق الماضي الذي اشتمه الآن.
صحيح أن الثقافات والعادات واللهجات الأفريقية بعيدة كل البعد عن الثقافة العربية وأصولها، لكنهما تقاطعتا في حقب زمنية معينة مع انتشار الإسلام في غرب أفريقيا وبرزت دول وإمبراطوريات كمملكة "غانة" وإمبراطورية "مالي " التي جاءت على أنقاضها، وسيمكن انتشار الإسلام هذه المناطق البعيدة جغرافيّاً من تذوق الشعر العربي فيما يتعلق بالإمداح النبوية التي ابدع فيها الشعراء الأفارقة أشد إبداع مع لكنة لهجاتهم المحلية التي جعلت لعربيتهم ميزة خاصة. يقول محمد كاسو جابي وهو شاعرٌ من غينيا كوناكري في إحدى ابتهالاته: ولكم دعوتُكَ باسم ذاتك مؤمناً/أدعو مُقِرّاً بالوجود المُشْرِف بسواك لَمْ أهتِفْ فَوَاصِلْ بالرضى/عبداً بغير إلهه لم يَهْتِف ويقول الشاعر النيجيري " عبد الله بن فوذي": كـمْ سُـنَّةٍ أحييْتَهـا وضـلالـةٍ / أَخْمَدْتَها جَمْـراً ذكـا بِتَأَجُّـج وظللتَ في أرضٍ عوائدُها عَدَتْ/ وتخالفـت سـننُ النبي الأبهـج كانت أجواء الصحراء وطقوسها كفيلة بخلق وولادة شعراء كبار أغنوا الثقافات الإنسانية برمتها، ما يجعلنا نفترض جدلاً انه كلما رأيت صحراء الا وجدت جماعة من الناس يقرضون شعراً فوق رمالها والقمر الساطع شاهدٌ عليهم.
ومما كرس هذا النموذج أولوية البداوة وسيادة مفاهيمها وقيمها وتصوراتها في الثقافة العربية وما تعكسه مفردات اللغة العربية من تجذر في البيئة الصحراوية والحياة الرعوية. ولقد فسر البعض هذه الأولوية الثقافية واللغوية على أنها أولوية تاريخية وأن البداوة سابقة للحضارة. وربما ساهم في شيوع هذا الفهم الخاطئ العلاقة اللفظية، ولا أقول الاشتقاقية، بين البدو والبدائية وأن البدو، مثلهم مثل الجماعات البدائية، يعيشون حياة تنقل غير مستقرة. البدائية بالمفهوم الأنثروبولوجي الصرف تشير إلى تلك الجماعات الصغيرة المعزولة التي تعيش على الالتقاط وعلى الجمع والصيد وتشكل فيها العلاقات القرابية الأساس الذي تقوم عليه كل العلاقات الاقتصادية والسياسية. هذه المرحلة البدائية تسبق مرحلة الزراعة واستئناس النبات والحيوان. وتعيش الجماعات البدائية حياة تنقل دائب بحثا عن الطرائد وعن المصادر الطبيعية للغذاء. فحينما تنضب مصادر الغذاء الطبيعية في مكان ما تضطر الجماعة إلى الانتقال إلى مكان آخر. وحياة التنقل التي يعيشها البدائيون تختلف عن حياة التنقل التي يعيشها البدو لأن البدو يتنقلون بحثا عن المراعي لإبلهم بينما يتنقل البدائيون بحثا عن القوت لأنفسهم.