ومعنى (يأمر): يطلب، والمفعول محذوف لإفادة العموم. و(العدل) الإنصاف وعدم الجور. و(الإحسان) مصدر أحسن، وهو يأتي متعديًا ولازمًا؛ تقول في المتعدي: أحسنته بمعنى جوَّدته وأتقنته، وتقول في اللازم: أحسنت إليه بمعنى: تفضَّلتُ عليه. ان الله يامر بالعدل والاحسان وايتاء. ومِن الأول قوله صلى الله عليه وسلم: ((الإحسان أن تعبدَ الله كأنك تراه... )) إلخ الحديث، واللفظ هنا يحتمل المعنيين. وقوله: ﴿ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى ﴾؛ أي: وإعطاء القريب حقه، فالمصدرُ مضاف إلى مفعول الأول، وقد حذف الثاني للعلم به، وتخصيص الأقارب بالذكر لخطَر حقهم؛ ولذلك قال تعالى: ﴿ فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ ﴾ [محمد: 22]، كأن الإسلام إنما جاء لصلة الأرحام، فمَن أَعْرَضَ عنه فكأنما يُحب قطيعة الرحم، ولهذا قال أكثم بن صيفي لقومه لما بلغته آية: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ ﴾: إني أراه يأمر بمكارم الأخلاق، وينهى عن ملائمها، فكونوا في هذا الأمر رؤوسًا، ولا تكونوا أذنابًا. وقوله: ﴿ وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ ﴾؛ أي: ويطلب الكف عن كل ما قبح وزادت شناعته من الذنوب؛ كالزنا ونحوه. والمنكر: الإثم وعموم المعاصي التي يأباها الشرع ويُنكرها، وهو من عطف العام على الخاص، والبغيُ الظلم، وقيل: الكبر، وتخصيصه بالذكر للمبالغة في الزجر عنه؛ لأنه سريع المصرع، وهذا كقوله: ﴿ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ﴾ [الأعراف: 33].
عباد الله المؤمنين: نهى الله عن البغي, والبغي هو الظلم, هو العدوان, هو استلاب الحقوق, هو التعدي على الحرمات, هو أكل أموال الناس بالباطل, والبغي مرتعه وخيم, ولو بقي جيل على جيل, لدكّ الباغي, بقول الله تعالى:( ولا تحسبنّ الله غافلاً عمّا يعمل الظالمون إنّما يؤخّرهم ليوم تشخص فيه الأبصار)(8) عباد الله المؤمنين: هذه أجمع آية في الأخلاق, وقد يميز بها القرآن عن سائر الكتب السماوية- والشريعة الإسلامية, هي شريعة الأخلاق, وما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ليتمم مكارم الأخلاق, فاتقوا الله أيها المسلمون وتمسكوا بمبادئ هذه الآية الكريمة, واقرأوها في صلواتكم واجعلوها قبلتكم في أعمالكم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم( السلطان ظل الله تعالى في الأرض, يأوي إليه كلّ مظلوم من عباده, فإن عدل كان له الأجر, وكان على الرعية الشكر, وإن جار أو جاف أو ظلم كان عليه الوزر, وعلى الرعية الصبر, وإن جارت الولاة قحطت السماء, وإذا منعت الزكاة هلكت المواشي وإذا ظهر الزنا ظهر الفقر والمسكنة). وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم( إن المقسطين عند الله على منابر من نور, عن يمين الرحمن, وكلتا يديه يمين, الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا).
ويجوز أن تكون الواو استئنافية لبيان بعض الإجمال في الآية السابقة. والمراد بعهد الله البيعة ؛ أي: المعاهدة. والتقييدُ بقوله: إذا عاهدتم للإشارة إلى أن الوفاء بالعهد لا يلزم إلا إذا صدر عن اختيار، فمَن أكره على عهد لا يلزمه الوفاء به. وقوله: { وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} أي: لا تُبطلوا ما عقدتموه مِن الحلف بالله، فتوكيد اليمين إبرامه عن قصدٍ، والتقييد بالظرف لإخراج لَغو اليمين، وعلى هذا فالمراد اليمين: المنعقدة مطلقًا. وقيل: توكيد اليمين تغليظها بالصفات؛ نحو: والله السميع العليم الجبار، وليس توكيدها بالصفة شرطًا في انعقادها، بل القيد لا مفهوم له. إن الله يأمر بالعدل والإحسان | الشيخ محمد علي كمالي. وقال ابن عمر: توكيدها هو أن يحلف مرتين، فإذا حلف واحدة فلا كفارة، وهذا ضعيف. ولا معارضة بين قوله: { وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} وبين قوله صلى الله عليه وسلم: « مَن حلف على يمين ورأى غيرها خيرًا منها، فليأتِ الذي هو خير، وليكفِّر عن يمينه »، وكذلك قوله: { وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ} [البقرة: 224] على قول؛ لأن المراد بقوله: { وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} يعني: أيمان العهود والمواثيق، لا الأيمان الواردة على حث أو منع، أو هذه الآية من العام الذي خصص بهذا الحديث ونحوه.
ولعل العدل في الأقوال أدق وأشق. واللهُ تعالى يُحِب الكلام بعلم وعدل، ويَكْره الكلام بظلم وجهل: ﴿ وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمْ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ ﴾ [النحل: 116]. ان الله يامر بالعدل و الاحسان. وتأمَّلوا هذا الإنصافَ النبويَّ - في القول – حينما أعلنَ حُكمَه على كلمةٍ قالها شاعرٌ حال كُفْرِه؛ إذْ قال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ أَصْدَقَ كَلِمَةٍ قَالَهَا شَاعِرٌ، كَلِمَةُ لَبِيدٍ: "أَلاَ كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلاَ اللَّهَ بَاطِلُ"» رواه مسلم. ومن إنصافِ عليِّ بنِ أبي طالبٍ رضي الله عنه – في القول – أنه سُئِلَ عن مَنْ خَرَجَ عليه: أَمُشْرِكُونَ هُمْ؟ قَالَ: «مِنَ الشِّرْكِ فَرُّوا»، قِيلَ: مُنَافِقُونَ هُمْ؟ قَالَ: «إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلًا»، قِيلَ: فَمَا هُمْ؟ قَالَ: «إِخْوَانُنَا بَغَوْا عَلَيْنَا، فَقَاتَلْنَاهُمْ» رواه البيهقي وابن أبي شيبة. قال النووي رحمه الله: (يَنْبَغِي أَنْ يُذْكَرَ فَضْلُ أَهْلِ الْفَضْلِ، وَلَا يَمْتَنِعُ مِنْهُ؛ لِسَبَبِ عَدَاوَةٍ وَنَحْوِهَا).
الغَرَض الذي سِيقَتْ له: بيان كلية الخير التي يُحبها الله ويأمر بها، وكلية الشر التي يكرهها اللهُ وينهَى عنها. ومناسبتها لما قبلها: أنه لما أشار في الآية السابقة إلى أنه يُحب العدل؛ حيث يبعث في كل أمة شهيدًا عليهم من أنفسهم يوم القيامة ، ويجيء بمحمد صلى الله عليه وسلم شهيدًا على هؤلاء، وبيَّن أنه نزل الكتاب تبيانًا لكل شيء - بيَّن هنا هذه الكلية، وبدأ بالعدل الذي يُحبه. وقوله: { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ}، فيه الأمر بثلاث خصال هي أصول الخير، والنهي عن ثلاث خصال هي أصول الشر. ومعنى (يأمر): يطلب، والمفعول محذوف لإفادة العموم. ان الله يأمر بالعدل والاحسان تفسير الامثل. و(العدل) الإنصاف وعدم الجور. و(الإحسان) مصدر أحسن، وهو يأتي متعديًا ولازمًا؛ تقول في المتعدي: أحسنته بمعنى جوَّدته وأتقنته، وتقول في اللازم: أحسنت إليه بمعنى: تفضَّلتُ عليه. ومِن الأول قوله صلى الله عليه وسلم: « الإحسان أن تعبدَ الله كأنك تراه... » إلخ الحديث، واللفظ هنا يحتمل المعنيين. وقوله:{ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى}؛ أي: وإعطاء القريب حقه، فالمصدرُ مضاف إلى مفعول الأول، وقد حذف الثاني للعلم به، وتخصيص الأقارب بالذكر لخطَر حقهم؛ ولذلك قال تعالى: { فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} [محمد: 22]، كأن الإسلام إنما جاء لصلة الأرحام، فمَن أَعْرَضَ عنه فكأنما يُحب قطيعة الرحم، ولهذا قال أكثم بن صيفي لقومه لما بلغته آية: { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} إني أراه يأمر بمكارم الأخلاق ، وينهى عن ملائمها، فكونوا في هذا الأمر رؤوسًا، ولا تكونوا أذنابًا.
وتأمَّلوا هذا الإنصافَ النبويَّ -في القول- حينما أعلنَ حُكمَه على كلمةٍ قالها شاعرٌ حال كُفْرِه؛ إذْ قال صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ أَصْدَقَ كَلِمَةٍ قَالَهَا شَاعِرٌ، كَلِمَةُ لَبِيدٍ: " أَلاَ كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلاَ اللَّهَ بَاطِلُ "(رواه مسلم). ومن إنصافِ عليِّ بنِ أبي طالبٍ -رضي الله عنه- في القول: أنه سُئِلَ عن مَنْ خَرَجَ عليه: أَمُشْرِكُونَ هُمْ؟ قَالَ: " مِنَ الشِّرْكِ فَرُّوا " قِيلَ: مُنَافِقُونَ هُمْ؟ قَالَ: " إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً " قِيلَ: فَمَا هُمْ؟ قَالَ: " إِخْوَانُنَا بَغَوْا عَلَيْنَا، فَقَاتَلْنَاهُمْ "(رواه البيهقي وابن أبي شيبة) قال النووي -رحمه الله-: " يَنْبَغِي أَنْ يُذْكَرَ فَضْلُ أَهْلِ الْفَضْلِ، وَلَا يَمْتَنِعُ مِنْهُ لِسَبَبِ عَدَاوَةٍ وَنَحْوِهَا ". وإقامة العدل في الأرض لا يمكن أنْ تَتِمَّ إلاَّ حين تتجرَّد النفوسُ لله -تعالى-، وتتخلَّى عن رغباتها، ويكون هدفُها الأسمى هو ابتغاء مَرضاةِ الله؛ قال الله -تعالى-: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ)[النساء: 135] والقوَّام صِيغَةُ مُبالغةٍ، أي: كونوا في كُلِّ أحوالكم قائمين بالقسط، الذي هو العدل في حقوق الناس، ومن أعظم أنواع القِسط: القِسْطُ في القول.
ومما يحسن الإشارة إليه هنا، هو أن هذه الآية قد جمعت أصول الشريعة، من حيث إنها أمرت بثلاثة أمور، لا يصلح شأن الإنسان إلا بها، وهي: العدل، والإحسان، وإيتاء ذي القربى، ونهت عن ثلاثة أمور، لا يصلح شأن الدنيا إلا بها، وهي: الفحشاء، والمنكر، والبغي. وبهذه الأوامر الثلاثة والنواهي الثلاثة تستقيم حياة الناس في الدنيا، ويفوزون بالآخرة.