أذكرُ أنني وقتها تتابعت في رأسي كل الأفكار الكارثية التي يمكن أن تأتيك في وقت كهذا. ماذا لو مت؟ كيف سيعلمُ أهلي وأنا في بلد وهم في بلد آخر؟ كيف حال من مات له عزيز في غُربة؟ زملائي الذين رحلوا وهم في موقف كهذا كيف كان وقْع الخبر على ذويهم؟ دعوني أعترف أيضا أنني أكتبُ هذه المرة، وبعد توقف طويل، علني أتجاوز، كما كنت أفعلُ بالكتابة دوما بعد أن أعجز أن أتجاوز تلقائيا تذكرت راحلِينَ كُثُر تشابهت ظروف رحيلهم بظروف حادثتي. راحلين جمعتهم غُربة البلد والرفقة، غُربة المرض، غربة الوطن وظلمات غُربة السجن. جمعتهم الغربة وقصصهم شتى. لكلٍ حياته وعِبرته. كم لله من لطف خفي كلمات. تذكرتهم فبكيت. بكيتُ هذه المرة لا لما أصابني مثل مرات سابقة، بل لأن لطفَ الله الخفيّ أحاط بي من كل جانب! ثم انتشلني من بحر تلك الأفكار أُناس لا أعرفهم ولا يعرفونني ولكن الله بلُطفه قد وضعهم في طريقي قدرا. أتعلمون؟ مازال الخير حقا باقيا في أمتنا وإن بدا أنّ السوءَ قد أُفلتَ زمامه. من هنا -وإن كنتُ لا أعلم من هم ومن أين أتوْا- أودّ أن أوجّهُ لهم امتناني بما فعلوه، وأنّ فضلهم في ما بقي من عُمرى محفوظ لهم أبدا، عسى الله أن يُجازيهم عني بما هم أهل له حقا. فشكرا لكم، غرباء أنتم تنتشلون غريبا من محنته وزوبعات أفكاره.
دعوني أعترف أيضا أنني أكتبُ هذه المرة، بعد توقف طويل، علنّي أتجاوز، كما كنت أفعلُ بالكتابة دوما بعد أن أعجز أن أتجاوز تلقائيا. دعوني أعترفُ أيضا أنني أبالغُ في كل ما كتبته، فإذا كنتُ هنا الآن، أكتبُ، أتكلمُ، أستمرُ في الذهاب إلى جامعتي كل يوم وأحادثُ أصدقائي كما كنتُ من قبل. إذا، أنا بخيرٍ، بخيرٍ تماما. فدُمتم بخيرٍ أيضا.
استُضعف أهل المعروف واستقوى أهل المنكر، وبُدل دين الله، وشاع العقوق والتباغض والتفاخر بالدنيا.. واستوجب الخلق العقوبة.. المشهد مرعب، فهل أَمِن الناس أن ينظر الله إليهم بِمقته كما نظر إلى أهل الأرض قبل بعثة محمدٍ صلى الله عليه وسلم فمقتهم عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب؛ وهم من كان ثابتًا على آثار النبوة السابقة؟! فهل أَمِن الناس أن ينظر الله إليهم بِمقته كما نظر إلى أهل الأرض قبل بعثة محمدٍ صلى الله عليه وسلم فمقتهم عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب؛ وهم من كان ثابتًا على آثار النبوة السابقة أيفهم هذا الإنسان حقيقة مقت الرب الملك الجبار لأهل الأرض؟! كم لله من لطف خفي. ترى كيف كان الحال لو قامت مثل هذه الحروب؟ كم سيكون حجم الرعب والهلع والتشرد والقتل، والدمار وانتهاك الإنسانية الذي سيلحق بنا، خاصة من يقطن في بؤر الصراع ومعاقد النزاعات؟ لكن الملك القهار أرسل مخلوقًا واحدًا فردًا من خلقه متناهٍ في الصغر.. أخفى من دبيب النملة السوداء على الصخرة الملساء في الليلة الظلماء، كائنًا لا يكاد يُرى بالمجاهر.. عطَّل حركة البشرية وتنقلاتها، أوقف الاقتصاد، وعرقل خطط التنمية والصناعات والاختراعات.. أوقف خطط الحروب وآلاتها، وفكَّ آلاف المعتقلين والمسجونين.
عادةً ما يقولون أن الألم يُشفى بطول الوقت والحقيقة أنه يخف تدريجياً حقاً ولكن يترك ندبةً بالقلب لا تختفى أبداً حتى يأذن الله بذلك ويداويها بكشف الستر والحكمة من الصرف ويعوضها بِمَا يُنسيها ما ذاقت يوماً.. هي الدنيا شِئْنَا أم أبينا لا تترك أحد يمر منها دون أن يأخذ نصيبه من جرعة الألم التي تستهلك من قلبه فتنهكه ليتوقف الزمن عنده فلا يشعر بمروره بل ويتمنى لو يمر سريعاً كأن لم يكن لحظة من الأساس.. ولكنها رغم شدتها إلا إنها تترك نضجاً مختلفاً وتكشف عن مناطق ومشاعر ومواقف لم نتعرف عليها من قبل ولن نعرفها دون المرور عبر جسر الألم! هي الدنيا في أشد اللحظات أماناً بها تكون أُولى خطوات الخذلان فلا تكتفى بأن تُظهر لنا كل يوم بل كل ساعة وموقف عن وجه جديد لها فتشعر بمرور الوقت أنك أصبحت تُدرك جزء كبير من أسرارها ومخضرماً في دهاليزها إلا أن تأتى إليك صفعة أخرى من حيث لا تدري لتعيدك من جديد أنك هنا فقط من أجل اختبار فركز فيه حتى لا تخسر ف الدارين ولا تُلهِكَ عن الحياة الدائمة الحياة الزائفة! كطبيعة البشر لا نستطيع أن نستسلم للمجهول فكيف لخرق سفينة وخراب رأس مال قوم أن يكون سبب نجاتهم! السرطان - .. :: منتدى تاروت الثقافي :: ... ؟ وكيف لقتل غلام صغير فلذة كبد أهله يكون هو محض الخير لهم من حياته معهم؟ وكيف لعمل خير في قوم مع سوء خلقهم وعدم وقوفهم بجانبنا في شدتنا وإقامه جدار انقض لهم؟ وهو في علم الله عمل خير حقاً ولكن ليتيمن كان أبوهما صالحا ليشهدنا الله أن علينا عمل الخير في أهله وغير أهله فحاشاه أن يضيعه وسيرد لنا ولمن بعدنا فالكون كونه سبحانه والخلق خلقه والتدبير تدبيره فلا يأخذ أحداً إلا ما قدره الله لك ولا يستطيع كائناً ما كان أن يمنع عنك شيء كتبه الله عليك. "