فالظاهر أن إطلاق المثل على القول البديع السائر بين الناس الصادر من قائله في حالة عجيبة هو إطلاق مرتب على إطلاق اسم المثل على الحال العجيبة ، وأنهم لا يكادون يضربون مثلا ولا يرونه أهلا للتسيير وجديرا بالتداول إلا قولا فيه بلاغة وخصوصية في فصاحة لفظ وإيجازه ووفرة معنى ، فالمثل قول عزيز ليس في متعارف الأقوال العامة ، بل هو من أقوال فحول البلاغة ، فلذلك وصف بالغرابة أي العزة مثل قولهم: الصيف ضيعت اللبن ، وقولهم: لا يطاع لقصير أمر ، وستعرف وجه ذلك.
هذا هو المَثَل الناريُّ، فشبه الله المنافقين بمن استوقد نارًا... إلخ. قوله: ﴿ مَثَلُهُمْ ﴾؛ أي: مَثَلُ المنافقين، أو فريق منهم، وهم الذين آمنوا ثم كفروا. مثلهم كمثل الذي استوقد نارا ( مثال المنافقين ) - YouTube. ﴿ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا ﴾: الكاف للتشبيه، والمثل: الشَّبَهُ، أي: كشَبَهِ الذي استوقد نارًا في ليلة مظلمة في مفازة؛ أي: طلب من غيره أن يوقد له نارًا، أو أن يعطيه جذوة من نار، أو أوقد نارًا بنفسه، وعلى هذا تكون السين والتاء فيه للمبالغة، وضرب هنا مثل الجماعة بالواحد، كما قال تعالى: ﴿ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ ﴾ [الأحزاب: 19]، وقال تعالى: ﴿ مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ ﴾ [لقمان: 28]. ﴿ فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ﴾: "ما" موصولة؛ أي: فلما أنارت الذي حول هذا المستوقد، فانتفع بها وأبصر ما عن يمينه وشماله، وما أمامه وما خلفه. ﴿ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ ﴾: جواب الشرط "لما" أي: ذهب الله بما ينفعهم وهو النور، وأبقى لهم ما يضرهم وهو الإحراق والدخان؛ ولهذا لم يقل: ذهب الله بنارهم. وفي التعبير بقوله: ﴿ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ ﴾ دون أن يقول "أذهب الله نورهم" تأكيدٌ لعدم عود النور إليهم؛ لأنه لو قال: أذهب الله نورهم، لاحتمل رجوع النور إليهم، فلما قال: ﴿ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ ﴾ دلَّ ذلك على تأكيد عدم عودة النور إليهم.
فإن الهدى يدخل إلى العبد من ثلاثة أبواب، مما يسمعه بأذنه، ويراه بعينه ويعقله بقلبه. وهؤلاء قد سدت عليهم أبواب الهدى، فلا تسمع قلوبهم شيئا، ولا تبصره، ولا تعقل ما ينفعها. وقيل: لما لم ينتفعوا بأسماعهم وأبصارهم وقلوبهم نزّلوا منزلة من لا سمع له ولا بصر ولا عقل. والقولان متلازمان. ثم قال - رحمه الله -: وتأمل قوله: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ ولم يقل بنارهم. ليطابق أول الآية. فإن النار فيها إشراق وإحراق. فذهب بما فيها من الإشراق - وهو النور - وأبقى عليهم ما فيها من الإحراق، وهو النارية وتأمل كيف قال: "بنورهم" ولم يقل بضوئهم، مع قوله: فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ لأن الضوء هو زيادة في النور. فلو قال: ذهب اللّه بضوئهم لأوهم الذهاب بالزيادة فقط، دون الأصل. فلما كان النور أصل الضوء كان الذهاب به ذهابا بالشيء وزيادته.. [3].