قال ﷺ: كلا يا عمر، إنَّه سيأتي على الناس زمانٌ يتركون الأذانَ على ضُعفائهم، وتلك لحومٌ حرَّمها اللهُ عزَّ وجلَّ عَلَى النَّارِ؛ لُحُومُ الْمُؤَذِّنِينَ. قَالَ: وَقَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: ولهم هذه الآية: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ [فصلت:33]. قَالَتْ: فَهُوَ الْمُؤَذِّنُ إِذَا قَالَ: "حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ" فَقَدْ دَعَا إِلَى اللَّهِ. ومن احسن قولا من. وَهَكَذَا قَالَ ابْنُ عمر رضي الله عنهما وَعِكْرِمَةُ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْمُؤَذِّنِينَ. وَقَدْ ذَكَرَ الْبَغَوِيُّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ أنَّه قال في قوله : وَعَمِلَ صَالِحًا قَالَ: يَعْنِي صَلَاةَ رَكْعَتَيْنِ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ. ثُمَّ أَوْرَدَ الْبَغَوِيُّ حَدِيثَ عَبْدِالله بن المغفّل قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ ، ثُمَّ قَالَ فِي الثَّالِثَةِ: لِمَنْ شَاءَ. وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْجَمَاعَةُ فِي كُتُبِهِمْ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِاللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْهُ. وَحَدِيثِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ زَيْدٍ الْعَمِّيِّ، عَنْ أَبِي إِيَاسٍ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ.
لقد استحل بعضنا حرمات بعض، الأموات قبل الأحياء، وهذا شيء شنيع غريب لا نريده لمساجدنا ولا جامعاتنا، فالذي يعذر ويحترم الآخرين هو العالِم الحق، ومن يتعصب ويجرّح الآخرين هو الجاهل الأحمق، ولو نفخه أتباعه بأوصاف العلم والفكر، ولقد شاهدت مقاطع لمحاضرات يتحدث فيها هؤلاء الذين زعموا أنهم علماء، يجرّحون علماء آخرين، ويسبونهم، ويجرئون الآخرين على هذا المسلك العجيب، الذي يورث عداوة وبغضاء، باسم الانتصار للحق والصواب، ونسي هؤلاء أن الحق والاستهزاء بالآخرين لا يجتمعان أبدا. أن يأتي تفريق الأمة من أعداء معروفين أمر ممكن معقول، أما أن تفرّق بأيدي أبنائها ومفكريها وعلمائها فهذا هو الشر المستطير، فالله تعالى في هذه الآية (عنوان المقال) ذكر ثلاثية ينبغي التعمق في النظر إليها، حيث الدعوة والعمل الصالح والالتزام العام بهذا الدين والافتخار بالانتساب إليه. في هذا الاستفهام يبين الله تعالى أن لا أحد أحسن ممن دعا إليه، وعمل صالحا، وقال إنني من المسلمين، هكذا هي: عموميات وراءها الالتزام والانقياد والولاء الخالص لهذا الدين، وبدأت الآية بصفة الدعوة إلى الله، لا إلى أفكار خاصة، ومجموعات خاصة، ومذاهب خاصة، دعوة تعدت هنا بـ (إلى)، لأن غايتها الوصول إلى الله تعالى، إلى رضاه وكل ما يقرب العبد منه، حيث العبادة والمراقبة والحب والرضوان واليقين به سبحانه، هذا الذي ينبغي أن يسيطر على فكر الدعاة، والعلماء كذلك من باب أولى.
وقال ابن حجر رحمه الله على الشاهد ((بلِّغُوا عني ولو آية))؛ أي: ليُسارع كلُّ سامع إلى تبليغ ما وقع له من الآي ولو قلَّ؛ ليتصل بذلك نقل جميع ما جاء به صلى الله عليه وسلم [6].
وقوله تعالى (وقال إنني من المسلمين) فلا أظن الأمر سيقف عند مجرد القول، بل في طياته ما يدعو إلى الالتزام والاعتزاز بكونه مسلما، سواء بالمعنى العام لكلمة (الإسلام) حيث الانقياد والاستسلام لله تعالى في أمره ونهيه، أو بالمعنى الخاص حيث دين الإسلام الموحى به إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ويتذكر المؤمن هنا قوله تعالى عن هذا الدين: "اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون، اليوم أكملت لكم دينكم، وأتممت عليكم نعمتي، ورضيت لكم الإسلام دينا"، وجاء هذا النص في سورة تحدثت بالتفصيل عن الإسلام واليهودية والنصرانية. إن هذه الجملة (وقال إنني من المسلمين) تحمل في ثناياها ما ينبغي أن يكون عليه جمهور المسلمين، وما ينبغي أن يسيطر على ثقافة الدعاة والعلماء، حيث تجميع الناس لا تفريقهم، ودعم كل ما يوصل إلى جمع كلمة المسلمين، لا بتفريقهم، ومرة أخرى فالخلاف أمر طبيعي فطري، وصدق الله: "ولا يزالون مختلفين"، فجمع الناس على مذهب واحد، وفكرة واحدة، وجماعة واحدة، ورأي واحد، لهو أمر مستحيل، فهل الحل في تفريق الأمة بحجة الرأي الحق والمنهج الحق! ؟ مع أن الحق قد يكون متعددا، قصدا من الشارع سبحانه، كما بينت ذلك في المقال السابق، إذ شاء الله تعالى للناس أن يختلفوا في قراءة القرآن الكريم، فمن باب أولى أن نختلف في أمور أخرى، ما دامت محتملة ممكنة، بل لله حكمة في وجودها، تنويعا للمعنى والفهم، وتخفيفا على العباد.