وإن كان ما يترتب على ذلك لا يتعدى إلى أكثر من كلمة يلفظها الإنسان أو شق كلمة، وكما ترى فإن كثيراً من الناس لا يهمهم سوى القول الذي لا يثمر عطاءً ولا يقدم منفعة، فهم يأتون المجالس صفاً حديثهم الدنيا وهمهم الدنيا، ولذلك أصبح دينهم أقرب إلى اللهو واللعب، علماً أن الله تعالى قد تعبدنا بذكره في كل عمل نقوم به، ولهذا قيل إن كل أمر لا يبدأ بذكر الله فهو أبتر وروي هذا الحديث بطرق مختلفة. ومن هنا يجب أن نقارن بين أولئك الناس الذين تعرضنا لذكرهم، وبين الناس الذين لا يفارقهم ذكر الله تعالى في جميع الأعمال التي يمارسونها وقد ضرب الحق سبحانه لهؤلاء الناس أروع الأمثلة بإبراهيم وإسماعيل عند رفعهم القواعد من البيت، وذلك في قوله: (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم) البقرة 127. * من كتابي: السلطان في تفسير القرآن
فامتثال إبراهيم لهذا الأمر العظيم الصعب شديد المشقة ناشئ من قوة عقيدته وصحة إسلام وجهه لربه وصدقه معه في كل تضحية. و اذ يرفع ابراهيم القواعد - YouTube. فدعاؤه لله جاء في غاية الأدب والإيمان، وغايتهما من دعائهما الرضا والقبول، ورجاؤهما القبول متعلق بأن الله سميع الدعاء، عليم بما في القلوب والضمائر من المقاصد الخالصة لوجهه سبحانه وتعالى. هكذا يريد الله تعليم ورثة الأنبياء تصميم الأنبياء على الامتثال وإخلاصهم القصد في ذلك وحصرهم مناهم على الرضا والقبول مع حسن أدبهم في الدعاء والضراعة إلى الله. [1] أخرجه مسلم (1270/248)، وأحمد (1/34).
تفسير سورة البقرة الآية [ 127] قال الله تعالى: ﴿ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [127]. معنى قوله تعالى { إياك نعبد وإياك نستعين }. هنا يرجع الله بالسياق القرآني إلى إبراهيم بعد ما ترك موسى وقومه، وأن أهل الكتاب ليرجعون بأصولهم إليه عن طريق ابنه إسحاق ويعتزون بنسبتهم إليه وبوعد الله له ولذريته بالنماء والبركات. ومن هنا يحتكرون لأنفسهم الهداية والقوامة على الدين، كما يحتكرون لأنفسهم الجنة مهما عملوا. وأن قريشاً أيضاً لترجع بأصولها كذلك إلى إبراهيم عن طريق إسماعيل، وتعتز بنسبتها إليه، وتستمد من هذا الانتساب القوامة على البيت وعمارة المسجد الحرام، كما تستمد سلطانها الديني على العرب وفضلها وشرف مكانتها، فالآن يأتي الله بالحديث عن إبراهيم وبنيه إسماعيل وإسحاق ثم يعقوب، وعن بناء البيت الحرام وشعائره في الجو المناسب، لتقرير الحقائق الدامغة لبني إسرائيل والمشركين في دعاويهم عن علاقتهم بإبراهيم، علاقة النسب التي بتروها بمخالفتهم له في العقيدة، وذلك أن دين إبراهيم هو التوحيد الخالص، الذي بينه وبين عقائدهم المنحرفة الضالة أبعد مما بين السماء و الأرض.
وقد ذكر الله في سورة القصص من قصة فرعون وقارون ما فيه عبرة لأولي الألباب. وكل عمل لا يعين الله العبد عليه فإنه لا يكون ولا ينفع فما لا يكون به لا يكون وما لا يكون له لا ينفع ولا يدوم فلذلك أمر العبد أن يقول: { إياك نعبد وإياك نستعين}. والعبد له في المقدور " حالان " حال قبل القدر. تفسير سورة البقرة .. الآية ( 127 ). و حال بعده فعليه قبل المقدور أن يستعين بالله ويتوكل عليه ويدعوه فإذا قدر المقدور بغير فعله فعليه أن يصبر عليه أو يرضى به وإن كان بفعله وهو نعمة حمد الله على ذلك وإن كان ذنبا استغفر إليه من ذلك". "مجموع الفتاوى" ( 8/75-76).