[ ص: 319] القول في تأويل قوله - عز وجل - ( يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا) قال أبو جعفر: يعني بذلك - جل ثناؤه -: ويحذركم الله نفسه في يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا موفرا ، " وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا " يعني غاية بعيدة ، فإن مصيركم أيها القوم يومئذ إليه ، فاحذروه على أنفسكم من ذنوبكم. وكان قتادة يقول في معنى قوله: " محضرا " ما: - 6840 - حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله: " يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا " يقول: موفرا. قال أبو جعفر: وقد زعم [ بعض] أهل العربية أن معنى ذلك: واذكر يوم تجد. وقال: إن ذلك إنما جاء كذلك ، لأن القرآن إنما نزل للأمر والذكر ، كأنه قيل لهم: اذكروا كذا وكذا ، لأنه في القرآن في غير موضع: " واتقوا يوم كذا ، وحين كذا ". وأما " ما " التي مع " عملت " فبمعنى " الذي " ولا يجوز أن تكون جزاء ، لوقوع " تجد " عليه. وأما قوله: " وما عملت من سوء " فإنه معطوف على قوله: " ما " الأولى ، و " عملت " صلة بمعنى الرفع ، لما قيل: " تود ". [ ص: 320] فتأويل الكلام: يوم تجد كل نفس الذي عملت من خير محضرا ، والذي عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا " والأمد " الغاية التي ينتهى إليها ، ومنه قول الطرماح: كل حي مستكمل عدة ال عمر ، ومود إذا انقضى أمده يعني: غاية أجله.
كلما قرأت وسمعت هذه الآية التي في سورة آل عمران: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران: 30]. استشعرت أن كل عمل من خير أو سوء مكتوب في الدنيا محضر يوم القيامة، فيفرح الإنسان بالخير، ويتمنى أن يكون بينه وبين الشر أمدًا بعيدًا. وأعظم ما في الآية من الترهيب { وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} فإنها تخلع القلوب، وترتعد وترتعش منها الأجساد خوفًا واضطرابًا. وأعظم ما في الآية من الترغيب والرحمة { وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} فإنه مع قوته وشدته ورهبته رؤوف رحيم بعباده، وإن مظاهر رأفته ورحمته كثيرة. ومن مظاهر رأفته ورحمته أنه حذر عباده قبل أن يعاقبهم، وأنه يعفو عن كثير من ذنوب عباده، وأنه فتح لهم باب التوبة حتى يقلعوا عن خطاياهم.
وهذه هي نظرة الأجر المعيّن والجزاء القانوني. 2 ـ ثمّة آخرون يعتقدون أنّ النفس البشرية تخلق الثواب والعقاب، فالنفس تخلق ذلك في العالم الآخر دون إختيار، أي أنّ الأعمال الحسنة والأعمال السيّئة في هذا العالم تخلق في النفس صفات حسنة أو سيّئة، وهذه الصفات تصبح جزءاً متمكّناً من ذات الإنسان، وتبدأ هذه بإيجاد صورة تناسبها من السعادة أو العذاب. فذو الباطن الحسن في هذا العالم يتعامل مع مجموعة من الأفكار والتصوّرات الحسنة، والأشرار والخبثاء مشغولون بأفكارهم الباطلة وتصوّراتهم الدنيئة في نومهم ويقظتهم. وفي يوم القيامة تقوم هذه الصفات نفسها بخلق السكينة والعذاب أو الشقاء والسعادة. وبعبارة أُخرى أنّ ما نقرأه عن نِعم الجنّة وعذاب جهنّم ليس سوى ما تخلقه هذه الصفات الحسنة أو السيّئة في الإنسان. 3 ـ فريق ثالث من كبار علماء الإسلام اتّخذوا سبيلاً آخر دعموه بكثير من الآيات والأحاديث. يقول هؤلاء: إنّ لكلّ عمل من أعمالنا ـ حسناً كان أم سيّئاً ـ صورة دنيوية هي التي نراها، وصورة أُخروية كامنة في باطن ذلك العمل. وفي يوم القيامة، وبعد أن تكون قد طرأت عليه تحوّلات كثيرة، يفقد صورته الدنيوية ويظهر بصورته الأُخروية فيبعث على راحة فاعله وسكينته، أو شقائه وعذابه.
ويستفاد من آيات أُخرى أنّ الأعمال الصالحة في هذه الدنيا تأتي في الآخرة بصورة نور وضياء، فيطلبه المنافقون من المؤمنين: (انظرُونا نَقتَبِس مِن نُورِكم) فيقال لهم: (ارجعوا وراءكم فالتمِسُوا نوراً) هذه الآيات وغيرها العشرات تدلّ على أننا يوم القيامة نجد العمل عينه بشكل أكمل، وهذا هو تجسيد الأعمال الذي يقول به علماء الإسلام. هناك روايات كثيرة أيضاً عن أئمّة الإسلام تؤكّد هذا المعنى، من ذلك: قال رسول الله ( وسلم) لمن طلب أن يعظه: «لابدّ لك يا قيس من قرين يدفن معك وهو حيّ، وتدفن معه وأنت ميّت، فإن كان كريماً أكرمك، وإن كان لئيماً أسلمك، لا يحشر إلاَّ معك ولا تحشر إلاَّ معه، ولا تُسأل إلاَّ عنه، ولا تُبعث إلاَّ معه، فلا تجعله إلاَّ صالحاً، فإنّه إن كان صالحاً لم تستأنس إلاَّ به، وإن كان فاحشاً لا تستوحش إلاَّ منه، وهو عملك» ولإلقاء الضوء على هذا البحث لابدّ من معرفة كيفية الإثابة والعقاب على الأعمال. رأي العلماء في الثواب والعقاب للعلماء آراء مختلفة في الثواب والعقاب: 1 ـ يعتقد البعض أن جزاء الأعمال الاُخروي أمر اعتباري، مثل المكافأة والعقوبة في هذه الدنيا، أي كما أنّ هناك في هذه الدنيا عقاباً على كلّ عمل سَيّء أقرّه القانون الوضعي، كذلك وضع الله لكلّ عمل ثواباً أو عقاباً معيّنين.
فإذا عاش أحد ـ مثلاً ـ في فترة الحرب العالمية، شمله القلق والإضطراب وإن ابتعد مكانياً عن منطقة الحرب، لكن الشخص الذي يعيش في فترة زمنية بعيدة عن الحرب لا يشعر بذلك القلق. هذا مع أن بعض المفسّرين احتملوا أن يكون للفظة «الأمد» معنى البُعد المكاني أيضاً (كما ورد في مجمع البيان نقلاً عن بعض المفسّرين)، غير أن هذا لم يرد في اللغة على الظاهر. (ويحذّركم الله نفسه واللهُ رؤوفٌ بالعباد). في الجزء الأوّل من هذه العبارة يحذّر الله الناس من عصيان أوامره، وفي الجزء الثاني يذكّرهم برأفته. ويبدو أنّ هذين الجزءين هما ـ على عادة القرآن ـ مزيج من الوعد والوعيد. ومن المحتمل أن يكون الجزء الثاني (والله رؤوف بالعباد) توكيداً للجزء الأوّل (ويحذّركم الله نفسه)، وهذا أشبه بمن يقول لك: إنّي أحذّرك من هذا العمل الخطر، وإنّ تحذيري إيّاك دليل على رأفتي بك، إذ لولا حبّي لك لما حذّرتك. هذه الآية تبيّن بكل وضوح تَجسُّد الأعمال وحضورها يوم القيامة. كلمة «تجد» من الوجود ضدّ العدم. ولفظتا «خير» و «سوء» وردتا نكرتين لتفيدا العموم. أي أنّ الإنسان يجد أعماله الحسنة والقبيحة يوم القيامة مهما تكن قليلة. بعضهم أوّل هذه الآية وأشباهها وقال إنّ القصد من حضور الأعمال هو حضور ثوابها أو عقابها، أو حضور سجلّ الأعمال الذي دوّنت فيه الأعمال كلّها.