هكذا ذكر بعضُ أهل العلم، ولكن هذا لا يخلو من بُعْدٍ -والله تبارك وتعالى أعلم-، لكن يمكن أن يُقال: سبحانك اللهم وبحمدك يعني: أنَّك تُسبّح الله تسبيحًا مُقترنًا بحمده، مُتلبِّسًا به. وهنا: سبحانك اللهم وبحمدك يعني: أُسبِّحك تسبيحًا مُقترنًا بحمدك. وتبارك اسمك الحمد عرفنا في مناسباتٍ شتى أنَّه إضافة أوصاف الكمال، وإضافة الكمالات إلى الله -تبارك وتعالى-، ووصفه بالكمال مع المحبَّة والتَّعظيم يكون حمدًا؛ لأنَّه إن خلا من المحبَّة والتَّعظيم ومُواطأة القلب، فإنَّ ذلك قد يكون تملُّقًا، ومن هنا جاء الفرقُ بين المدح والحمد: فالمدح قد يكون تملُّقًا وتزلُّفًا، قد يكون نفاقًا، ونحو ذلك، فإذا حصلت مُواطأة القلب مع المحبَّة والتَّعظيم فهذا هو الحمد. سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك عمري. وعرفنا أيضًا من قبل أنَّ الحمدَ يفترق مع الشُّكر في كون الحمد يكون باللِّسان، فهذا من أبرز الفروقات بين الحمد والشكر؛ إذ إنَّ الشُّكر يكون باللسان والقلب والجوارح، ويقولون بأنَّ مورد الشُّكر يكون من جهة النِّعمة، يعني: يُشكر على النِّعمة، وأنَّ الحمدَ يكون مورده أعمّ، بمعنى: أنَّ الحمدَ يكون على السَّراء والضَّراء، هكذا يقولون. وعند التَّحقيق: قد لا يكون ذلك لازمًا؛ وذلك أنَّ الشُّكر قد يكون أيضًا على الضَّراء، وقد تكلَّمنا على هذا طويلاً في الكلام على الأعمال القلبية، وقلنا: إنَّ المراتبَ أربع: فالأولى: التَّسخط، وهو حرامٌ.
الحاصل: أنَّ شيخَ الإسلام -رحمه الله- حينما اختار مثل هذا الذكر له تعليلات، وقد أشرنا إلى شيءٍ منها من قبل، والحافظ ابن القيم -رحمه الله- ذكر أوجهًا لهذا الاختيار، من ذلك: أنَّ عمر كان يُكثر من إسماع المأموم خلفه، فدلّ على أنَّ هذا هو المختار والأكمل والأكثر ذيوعًا وانتشارًا بين أصحاب رسول الله ﷺ. كذلك أيضًا ما ذكرناه سابقًا من أنَّه يتضمن أفضل الكلام بعد القرآن والباقيات الصَّالحات، حيث اشتمل على التَّسبيح والتَّحميد والتَّهليل، فإذا اجتمع معه تكبيرةُ الإحرام في أول الصَّلاة؛ فهنا يكون قد اشتمل ذلك جميعًا على الكلمات الأربع، فهذا من حيث المضمون. كذلك أيضًا أنَّه قد تمحض في الثَّناء على الله -تبارك وتعالى-، وذكرنا من قبل في المفاضلة بين الأذكار: أنَّ الأعلى من ذلك ما كان من قبيل الثَّناء المحض على الله، ثم يلي ذلك من الذكر ما كان من قبيل الإخبار: اللهم إني عبدك، وابن عبدك، وابن أمتك [9] يُخبر عن نفسه وعن تعبُّده، وما إلى ذلك، ثم يلي ذلك الدُّعاء. سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك نترجاه. فهذه الأذكار الواردة منها ما هو ثناء محض، ومنها ما هو إخبار، ومنها ما هو من قبيل الدُّعاء، فهذا من النوع الأول، وقلنا من قبل: إنَّ ذلك لا يختصّ به، وذكرنا ما يمكن أن يصدق عليه مثل هذا الوصف.
وفي حاشية ابن قاسم على "الروض المربع" (2/22): "و(جد) بفتح الجيم ، العظمة والحظ والسعادة والغناء، وتعالى: تعاظم، جاء على بناء السعة والمبالغة، فدل على كمال العلو ونهايته، أي: علا جلالك، وارتفعت عظمتك، وجلت فوق كل عظمة، وعلا شأنك على كل شأن، وقهر سلطانك كل سلطان" انتهى. وفي "توضيح الأحكام شرح بلوغ المرام" للبسام (2/169): "جدّك: بفتح الجيم وتشديد الدال، أي عظمتك وجلالك وسلطانك" انتهى. وقد تكررت هذه الكلمة (جَد) بفتح الجيم في القرآن الكريم ، والسنة النبوية. قال الله تعالى على لسان الجن: (وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَداً) الجن/3. ما درجة حديث الاستفتاح (سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك)؟. قال السعدي رحمه الله (ص890): أي: تعالت عظمته ، وتقدست أسماؤه" انتهى. وقال القرطبي رحمه الله (19/8): "(جد ربنا) أي: عظمته وجلاله" انتهى. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اللَّهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ ، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ ، وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ) رواه البخاري (844) ، ومسلم (593). قال العلماء أي: لا ينفع ذا الحظ والغنى والجاه، منك: حظُّه، وغناه، وجاهه. قال ابن رجب في قوله صلى الله عليه وسلم: (ولا ينفع ذا الجد منك الجد): "والجد -بفتح الجيم- المراد به في هذا الحديث: الغنى، والمعنى: لا ينفع ذا الغنى منك غناه.. " انتهى من "فتح الباري لابن رجب" (7/417).