وآخرُ الحديث يدل على أن الأمانةَ هي الإيمان، وهي الدين وواجباته؛ فالتوحيد -وهو عبادة الله وعدمُ إشراكِ أحدٍ معه في العبادة- أمانةٌ، والصلاة أمانة، والزكاة أمانة، والصيام أمانة، والحج أمانة، وصلة الرحم أمانة، والأمرُ بالمعروف أمانة، والنهيُ عن المنكر أمانة، والمال أمانة؛ فلا تستعن به على المعصية، والعين أمانة؛ فلا تنظر بها إلى ما حرّم الله، واليدُ أمانة، والفرج أمانةٌ، والبطن أمانة؛ فلا تأكل ما لا يحلّ لك، والأولادُ عندك أمانة؛ فلا تُضيّع تربيتَهم الصالحة، والزوجات عند الرجال أمانة؛ فلا تُضيّع حقوقهن، وحقوق الأزواج على النساء أمانةٌ، وحقوق العباد الماديَة والمعنوية أمانة؛ فلا تُنتقَص. وقد وعد الله على أداء الأمانات والقيامِ بحقوقها أعظمَ الثواب؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: " اكفلوا بستٍّ أكفل لكم بالجنة "، قلت: ما هن يا رسول الله؟ قال: " الصلاة والزكاةُ والأمانة والفرجُ والبطن واللسان " رواه الطبراني، قال المنذري: " بإسناد لا بأس به "، وفي الحديث: " أوَّلُ ما تفقدون من دينكم الأمانة، وآخرُ ما تفقِدون من دينكم الصلاةُ ". والتفريطُ في الأمانات والتضييعُ لواجباتِ الدين يورثُ الخللَ والفسادَ في أحوال الناس، ويُحيل الحياة مُرّةَ المذاق، ويقطَع أواصرَ المجتمع، ويعرّض المصالح الخاصة والعامة للخطر والهدر، ويُفسد المفاهيمَ والموازين، ويؤذِن بخرابِ الكون، قال -صلى الله عليه وسلم وقد سُئل: متى الساعة؟- قال: " إذا ضُيِّعتِ الأمانة فانتظر الساعة ".
الخطبة الثانية الحمدُ لله كثيرًا، وأشهَد أن لا إلهَ إلاَّ الله وحدَه لا شريكَ له في الآخرة والأولى، وأشهَد أنَّ سيِّدنا ونبيَّنا محمَّدًا عبده ورسوله، النبي المجتبى، اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك عليه، وعلى آلِه، وأصحابه. أمَّا بعد: فأيُّها المؤمنون، خُلُق الأمانة تنتظم به شؤونُ الحياة كلُّها؛ من عقيدة وعبادة، وأدب ومعاملة، وتكافُل اجتماعي، وسياسة حكيمة رشيدة، وخُلُق حسن كريم. والأمانة بهذا المعنى وهذه الحدود سِرُّ سعادة الأُمم، ويوم كانت أُمَّتُنا من أصدق الشُّعوب والأُمم في حمل هذه الأمانة والوفاء بها كانت أُمَّتُنا خيرَ أمَّة أُخِرجت للنَّاس.
قال الله تعالى: " إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا". ان عرضنا الامانة على السماوات والارض. قال الله تعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ". وقال الرسول صلى الله عليه وسلم عن الامانة: "لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له" أهمية الامانة اتصاف الناس بالامانة يساعدهم على نشر الخير والمحبة بينهم، وقد حثنا الله عز وجل على الاتصاف بالامانة في قوله تعالى: " وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ"، فللامانة فضل كبير عند الله، ومن يتصف بها ينال رضاءه، ويعده الله بالجنة. الامانة صفة جميلة يجب أن تحرصوا على الاتصاف بها، ونتمنى أن يحيطكم الله بأصحابها.
فأخذها آدم فتحملها، فذلك قوله: ( وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا). وقال على بن أبى طلحة، عن ابن عباس، الأمانة: الفرائض، عرضها الله على السماوات والأرض والجبال، إن أدوها أثابهم، وإن ضيعوها عذبهم، فكرهوا ذلك وأشفقوا من غير معصية، ولكن تعظيما لدين الله ألا يقوموا بها، ثم عرضها على آدم فقبلها بما فيها، وهو قوله: ( وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا) يعنى: غرا بأمر الله. وقال آخرون: هى الطاعة. الأمانة. وقال الأعمش، عن أبى الضحى، عن مسروق [ قال]: قال أبى بن كعب: من الأمانة أن المرأة اؤتمنت على فرجها. وقال قتادة: الأمانة: الدين والفرائض والحدود. وقال بعضهم: الغسل من الجنابة. وقال مالك، عن زيد بن أسلم قال: الأمانة ثلاثة: الصلاة، والصوم، والاغتسال من الجنابة. وكل هذه الأقوال لا تنافى بينها، بل هى متفقة وراجعة إلى أنها التكليف، وقبول الأوامر والنواهى بشرطها، وهو أنه إن قام بذلك أثيب، وإن تركها عوقب، فقبلها الإنسان على ضعفه وجهله وظلمه، إلا من وفق الله، وبالله المستعان. إعراب القرآن لقاسم دعاس (إِنَّا) إن ونا اسمها وحذفت نون إنّ للتخفيف والجملة مستأنفة (عَرَضْنَا) ماض وفاعله والجملة خبر إن (الْأَمانَةَ) مفعول به (عَلَى السَّماواتِ) متعلقان بعرضنا (وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ) معطوفة على ما سبق (فَأَبَيْنَ) الفاء عاطفة وماض مبنى على السكون ونون النسوة فاعله والجملة معطوفة (أَنْ) ناصبة (يَحْمِلْنَها) مضارع ونون النسوة فاعله والهاء مفعوله (وَأَشْفَقْنَ) معطوفة على أبين (مِنْها) متعلقان بأشفقن (وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ) ماض والهاء مفعوله والإنسان فاعل والجملة معطوفة (إِنَّهُ) إن واسمها (كانَ ظَلُوماً) كان وخبرها واسمها محذوف (جَهُولًا) خبر ثان وجملة كان خبر إنه.
وممَّن قال بعموم هذا الخطاب: البراء بن عازب، وابن مسعود، وابن عبَّاس، وأبيُّ بن كعب، واختاره جمهور المفسِّرين، ومنهم ابن جرير، وأجمعوا على أنَّ الأمانات مردودة إلى أربابها: الأبرار منهم والفجار، كما قال ابن المنذر) [247] ((فتح القدير)) (1/719).