من جهة اخرى، لولا الحان الملحنين الكبار اصحاب المواهب، خريجي كليات الفنون، لكانت أم كلثوم مجرد مغنية عادية لم يسمع بها ولم يهتم بها كثيرون. ما ينطبق على الاعمال الغنائية ينبطق على إدارة الدولة وادارة الشركات والمشاريع الكبيرة. لا فرصة للنجاح والتميز الا بالتكامل ما بين الانتاج الفكري المتفوق من جهة، والاداء التنفيذي المحترف الماهر لمختصين وخبراء من جهة أُخرى. ولأنه من النادر ان يفلح شخص في كليهما، فقد اندثرت مئات الاغاني التي كتب كلماتها ولحنها وغناها الشخص نفسه. في الدول الديموقراطية المتقدمة وكما هو معلوم للكثيرين، تُدار الحكومات غالبا من قبل الحزب الفائز في الانتخابات. الانتخابات تُمثلُ دائما تنافسا ما بين عدة احزاب لكل منها برنامجها الخاص بها. من هو صاحب قصيدة من اجل عينيك عشقت الهوى – المحيط. تتقدم هذه الاحزاب للجمهور ببرامجها التي ستنفذها خلال فترة الاربع سنوات القادمة. يختار الناخب عند الإدلاء بصوته البرنامج الذي يحقق مصالحه، وكذلك مرشح الحزب صاحب البرنامج الذي سيتولى التنفيذ، اذا وثق واقتنع بقدرته على ذلك. من يتولى دفة القيادة يباشر على الفور تطبيق البرنامج الذي أُنتخب على أساسه. بكلمات أخرى يكون البرنامج جاهزا وهو يمثل عقدا مُبرما ما بين الحزب والناخبين.
طبعا هناك من يأمر الوزراء بما يجب عليهم فعله تسديدا لفاتورة توزيرهم. من الخطأ لوم الحكومة لأنها لا تستطيع ان تضع برنامجا لعملها. فتشكيلها المفاجئ وضغط العمل والواسطات والترضيات وتسديد الالتزامات ومواجهة الدسائس عليها التي تبدأ لحظة الاعلان عن ولادتها من رؤساء وزراء ومتنفذين سابقين وأجهزة متعددة يجعل من المستحيل عليها وضع برنامج عمل موزون ومقبول علميا وشعبويا وقابل للتطبيق، يحقق نتائج مرغوب بها من الشعب أو ما يخدم المصلحة الوطنية العليا. هذا اولا. وثانيا، أن لا رئيس الوزراء ولا الوزراء مؤهلين لوضع برنامج عام وبرامج تفصيلية. البرنامج الحكومي ليس موضوع انشاء ولا قصيدة شعر ولا خطبة جمعه. أنه قد ينقل الدولة الى الامام او يعيدها سنوات الى الخلف. قد يجلب الازدهار، وقد يتسبب بالفقر والبطالة والكساد وزيادة نسبة الجريمة وترهل الجهاز الحكومي وتراجع الخدمات الحكومية الاساسية كالتعليم والصحة. هناك اصرار على عدم تبديل هذا الثوب المهترئ. اصرار على عدم السماح بحياة حزبية فاعلة. هناك ما يزيد على خمسين حزبا. من اجل عينيك عشقت الهوى كلمات. ثلاثة منها على الاقل عقائدية وهي الحزب الشيوعي الذي فشلت عالميا محاولة ترجمة فلسفته، وحزب البعث (حزب الشعارات) الذي لم يحترم شعاراته وجلب الويلات للامة، وحزب الاخوان المسلمين صاحب البرنامج الغامض، والسحري: "الاسلام هو الحل" والمُستخدم لنص في غير موضعه " لا يصلح هذا الامر الا بما صلح به أوله".
متناسيا انه في اول الامر لم تكن هناك مشاكل كساد وتضخم وازمات مواصلات، ولا مدارس ولا رعاية صحية ولا حرب تجارة عالميه ولا قنابل نووية. أما بقية الاحزاب التي ظنت أن كتابة موضوع إنشاء يتضمن بعض العنواين الاقتصادية والسياسية يعتبر برنامجا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأنه يؤهلها لادارة الدولة. ام كلثوم من اجل عينيك عشقت الهوي ام كلثوم. هذه الاحزاب جميعها لا يصلح أي منها لادارة دولة خصوصا وأنها فاقدة الديموقراطية حيث يعتلي كل منها زعيم أوحد من المهد الى اللحد. من حق الناس أن يعتقدوا ما يشاؤون، ولكن بناء الدول وإدارتها يحتاج لاحزاب غير عقائدية وبرامج عمل تستند الى العلم اولا والواقع المعاش ثانيا والمستقبل المرجو ثالثا والمحيط الدولي رابعا. لذلك لا بد من توقف الحكومة عن مقاومة نشوء احزاب جادة وحقيقية، ولا خيار للشعب إن أراد الخروج من المستنقع، إلا أن يقتنع بالاحزاب وأن يشارك فيها بفاعلية وتفان لأنها الضمان الوحيد لتحقيق ما يصبو اليه. في أغنية أم كلثوم: من أجل عينيك، استوقفتني ابيات تصف حال العلاقة بين الشعب والحكومة ولذلك اخترتها عنوانا لمقالي. الرؤى حولنا غامت بين شك ويقين والمنى ترقص على لحن الانين يُستشف اليأس في صمتنا آهات دفينه تتوارى بين أنفاسنا كي لا تستبينه لست أدري، هل هو الوطن الذي أُطفأت نجومه أم الخوف من التوقيف وتفضيل السكينه