فإن قلت: فلم دخلت الفاء؟ قلت: لما في الكلام من معنى الشرط، لأن المعنى: إما لا فليعبدوه لإيلافهم. على معنى أن نعم الله عليهم لا تحصى، فإن لم يعبدوه لسائر نعمه، فليعبدوه لهذه الواحدة التي هي نعمة ظاهرة. وقيل المعنى: اعجبوا لإيلاف قريش. وقيل هو متعلق بما قبله- في السورة السابقة- أى: فجعلهم كعصف مأكول. لإيلاف قريش، وهذا بمنزلة التضمين في الشعر، وهو أن يتعلق معنى البيت بالذي قبله... «1». وقوله- سبحانه-: رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ بيان لمظهر من مظاهر هذا الإيلاف الذي منحه- سبحانه- لهم، والرحلة هنا: اسم لارتحال القوم من مكان إلى آخر، ولفظ «رحلة» منصوب على أنه مفعول به لقوله إِيلافِهِمْ... "إيلاف قريش"، الاتفاقية التي غيّرت خريطة المنطقة وتاريخ العرب - رصيف 22. والمراد بهذه الرحلة: ارتحالهم في الشتاء إلى بلاد اليمن، وفي الصيف إلى بلاد الشام، من أجل التجارة، واجتلاب الربح. واستدرار الرزق، والاستكثار من القوت واللباس وما يشبههما من مطالب الحياة.
"إيلاف قريش"، الاتفاقية التي غيّرت خريطة المنطقة وتاريخ العرب - رصيف 22
فقد أدى إلى ضمان عدم انقطاع السلع بسبب الحروب والنزاعات، حيث أصبحت مكة مركزاً وسيطاً بين القوى المتحاربة، ينقل تجارة هذه لتلك وبالعكس دون تأثر بالمتغيرات السياسية. كذلك فقد التزمت القبائل المسيطرة على طرق النقل التجاري بـ"الحبال" التي أعطتها لبني عبد مناف، لما لها فيها من مصالح، بل وزادت من إنتاجها وفوائضها لتزيد من ربحها من المشاركة في القوافل. إضافة لذلك فقد ارتفع نشاط الصرافة نظراً لتداول عملات يمنية وفارسية وبيزنطية جراء تجارة تلك الدول في الجزيرة، فعرف المكيون نشاط الصيارفة، وأثروا من ذلك. وقد أدى أيضاً إلى تسهيل تداول التجارات القادمة من خارج الجزيرة، فتجارة مصر كانت تأتي عبر الشام، وتجارة الحبشة عبر البحر الأحمر، وتجارة الهند عبر اليمن، وهكذا، مما أدى لارتفاع نشاط الموانيء بالذات على البحر الأحمر مثل ينبع وجدة. وارتفع اهتمام المكيون بالمشاركة في التجارة الخارجية، فلم يعد ذلك مقتصراً على أثرياء البلد بل لقد شاركت الفئات الأقل ثراء سواء من مدخراتها أو من خلال الاقتراض الربوي مما أدى لازدياد أربح المرابين. وسارعت بعض القبائل إلى طلب دخول الإيلاف أو الاستفادة منه حتى وإن لم تكن واقعة على طرق التجارة المعتادة، طمعاً منها في الربح وكذلك للاستفادة من حماية قوافلها خلال مرورها بمناطق "الإيلاف"، ففتحت بذلك طرقاً وأسواقاً جديدة.
ويحكم يا معشر قريش ، اعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمكم من جوع وآمنكم من خوف ". هكذا رأيته عن أسامة بن زيد ، وصوابه عن أسماء بنت يزيد بن السكن ، أم سلمة الأنصارية ، رضي الله عنها ، فلعله وقع غلط في النسخة أو في أصل الرواية ، والله أعلم. آخر تفسير سورة " لإيلاف قريش ".