لا يبرح الإنسان يعاني في هذه الحياة من الأتعاب والشدائد والمصائب حتى يرحل إلى الدار الآخرة، ويستقر فيها إما في الجنة حيث النعيم والحبور، وإما في النار حيث العذاب والنكال والجحيم، ومن أعظم ما يقدم للإنسان من خير في حياته هو عتق الرقاب وإطعام الطعام للمحتاج والإيمان الصادق بالله ورسوله، والتواصي بالصبر مع المؤمنين، وبالمرحمة مع الفقراء والمساكين، وبهذه الخصال ينجو العبد بإذن الله من النار ويفك رقبته منها. تفسير قوله تعالى: (لا أقسم بهذا البلد) تفسير قوله تعالى: (وأنت حل بهذا البلد) ثم قال تعالى: وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ [البلد:2] هذه الجملة حالية. ومن هو الحال بالبلد الأمين؟ الجواب: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، والحال: أنك حل بهذا البلد، أقسم بمكة وأنت فيها، وحلال تقاتل وتقتل، وفي هذا إيذان، إشعار، إعلام، إخطار بأن الرسول سيدخل مكة غازياً، وسيفتحها الله عليه، وسيقاتل فيها ويقتل، وقد قتل ابن الأخطل وهو متعلق بأستار الكعبة، فلتذكر هذا قريش. اقسم الله تعالى في سوره العصر الدمام. وهذا إعلام بأن الله ناصر رسوله، وأنه سيحل له البلد الحرام، وقد قاتل وأعلن: مكة حرام منذ أن خلق الله الكون، وستبقى حرمتها إلى يوم القيامة، ( وقد أحلها الله لي ساعة من نهار ثم عادت حرمتها إلى يوم الدين)، إذ دخل وعلى رأسه المغفر صلى الله عليه وسلم.
وخامسها: أن صلاة العصر بها يحصل ختم طاعات النهار ، فهي كالتوبة ، بها يختم الأعمال ، فكما تجب الوصية بالتوبة كذا بصلاة العصر لأن الأمور بخواتيمها ، فأقسم بهذه الصلاة تفخيما لشأنها ، وزيادة توصية المكلف على أدائها وإشارة منه أنك إن أديتها على وجهها عاد خسرانك ربحا ، كما قال: ( إلا الذين آمنوا) وسادسها: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يكلمهم ولا يزكيهم [ عد] منهم رجل حلف بعد العصر كاذبا. (فإن قيل) صلاة العصر فعلنا ، فكيف يجوز أن يقال: أقسم الله تعالى به ؟ والجواب: أنه ليس قسما من حيث إنها فعلنا ، بل من حيث إنها أمر شريف تعبدنا الله تعالى بها. القول الرابع: أنه قسم بزمان الرسول عليه السلام ، واحتجوا عليه بقوله عليه السلام: إنما مثلكم ومثل من كان قبلكم مثل رجل استأجر أجيرا ، فقال: من يعمل من الفجر إلى الظهر بقيراط ؟ فعملت اليهود ، ثم قال: من يعمل من الظهر إلى العصر بقيراط ؟ فعملت النصارى ، ثم قال: من يعمل من العصر إلى المغرب بقيراطين ؟ فعملتم أنتم ، فغضبت اليهود والنصارى ، وقالوا: نحن أكثر عملا وأقل أجرا! أقسم الله تعالى في سورة العصر – ابداع نت. فقال الله: وهل نقصت من أجركم شيئا ؟ قالوا: لا ، قال: فهذا فضلي أوتيه من أشاء ، فكنتم أقل عملا وأكثر أجرا فهذا الخبر دل على أن العصر هو الزمان المختص به وبأمته ، فلا جرم أقسم الله به ، فقوله: ( والعصر) أي والعصر الذي أنت فيه فهو تعالى أقسم بزمانه في هذه الآية وبمكانه في قوله: ( وأنت حل بهذا البلد) [ البلد: 2] وبعمره في قوله: ( لعمرك) [ الحجر: 72] فكأنه قال: وعصرك وبلدك وعمرك ، وذلك كله كالظرف له ، فإذا وجب تعظيم حال الظرف فقس حال المظروف ، ثم وجه القسم ، كأنه تعالى يقول: أنت يا محمد حضرتهم ودعوتهم ، وهم أعرضوا عنك وما التفتوا إليك ، فما أعظم خسرانهم وما أجل خذلانهم.