الشرح " مَنْ " اسم شرط جازم،و: " رأى " فعل الشرط،وجملة " فَليُغَيرْه بَيَدِه " جواب الشرط. وقوله: " مَنْ رَأَى " هل المراد من علم وإن لم يرَ بعينه فيشمل من رأى بعينه ومن سمع بأذنه ومن بلغه خبر بيقين وما أشبه ذلك، أو نقول: الرؤيا هنا رؤية العين، أيهما أشمل؟ الجواب:الأول، فيحمل عليه، وإن كان الظاهر الحديث أنه رؤية العين لكن مادام اللفظ يحتمل معنى أعم فليحمل عليه. وقوله: " مُنْكَراً " المنكر:هو ما نهى الله عنه ورسوله، لأنه ينكر على فاعله أن يفعله. " ف َلْيُغَيِّرْهُ " أي يغير هذا المنكر بيده. مثاله: من رأى مع شخص آلة لهو لا يحل استعمالها أبداً فيكسرها. وقوله: " مُنْكَرَاً " لابد أن يكون منكراً واضحاً يتفق عليه الجميع، أي المنكر والمنكر عليه، أو يكون مخالفة المنكر عليه مبينة على قول ضعيف لا وجه له. أما إذا كان من مسائل الاجتهاد فإنه لا ينكره. " فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ " أي إن لم يستطع أن ينكره بيده " فَبِلِسَانِهِ " أي فلينكره بلسانه ويكون ذلك: بالتوبيخ، والزجر وما أشبه ذلك، ولكن لابد من استعمال الحكمة، كما سيأتي في الفوائد إن شاء الله، وقوله " بِلِسَانِهِ " هل نقيس الكتابة على القول؟ الجواب: نعم، فيغير المنكر باللسان، ويغير بالكتابة، بأن يكتب في الصحف أو يؤلف كتباً يبين المنكر. "
الحمد لله. أولاً: لا تعارض بين ما ثبت في الشرع سواء بين الآيات بعضها مع بعض ، أو الأحاديث مع الأحاديث ، أو الآيات مع الأحاديث ، إذْ كله وحي من عند الله ، قال الله عز وجل ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً النساء/82. ولو حدث تعارض فهو في عقولنا نحن وفي أفهامنا وليس في ذات النصوص ، ولذلك اعتنى العلماء ببيان النصوص المشكلة ، وإزالة التعارض الذي يقع في بعض الأذهان في بعض النصوص وأما بالنسبة للسؤال فإنه لا تعارض بحمد الله بين قوله صلى الله عليه وسلم " من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان " –رواه مسلم ( 49) – وبين قوله صلى الله عليه وسلم " من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه " –رواه الترمذي(2317) وابن ماجه ( 3976) وصححه ابن القيم في " الجواب الكافي " ( ص 112) وغيره -. فلا يمكن بحال أن يوجب الشرع على من رأى منكراً أن يغيره وأن يقول له في الوقت نفسه إن الأحسن والأفضل ترك إنكاره. فيكون للحديث الأول حال تختلف عن حال الحديث الثاني. وقريب من هذا ما فهمه بعض الناس من قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ، فأرشدهم أبو بكر الصدِّيق رضي الله عنه إلى الفهم الصحيح ، وبيَّن ذلك العلماء رحمهم الله.
فَإنْ لَمْ يَستَطِعْ فَبِقَلْبِهِ " أي فلينكر بقلبه، أي يكرهه ويبغضه ويتمنى أن لم يكن. " وَذَلِكَ" أي الإنكار بالقلب " أَضْعَفُ الإِيْمَانِ " أي أضعف مراتب الإيمان في هذا الباب أي في تغيير المنكر. من فوائد هذا الحديث: 1-أن النبي صلى الله عليه وسلم ولى جميع الأمة إذا رأت منكراً أن تغيره، ولا يحتاج أن نقول: لابد أن يكون عنده وظيفة، فإذا قال أحد: من الذي أمرك أو ولاك؟ يقول له النبي صلى الله عليه وسلم لقوله " مَنْ رَأَى مِنْكُمْ ". 2. أنه لا يجوز إنكار المنكر حتى يتيقن المنكر، وذلك من وجهين: الوجه الأول: أن يتيقن أنه منكر. والوجه الثاني: أن يتيقن أنه منكر في حق الفاعل،لأن الشيء قد يكون منكراً في حد ذاته، لكنه ليس منكراً بالنسبة للفاعل. مثال ذلك: الأكل والشرب في رمضان، الأصل أنه منكر، لكن قد لا يكون منكراً في حق رجل بعينه:كأن يكون مريضاً يحل له الفطر، أو يكون مسافراً يحل له الفطر. 3. أنه لابد أن يكون المنكر منكراً لدى الجميع، فإن كان من الأمور الخلافية فإنه لا ينكر على من يرى أنه ليس بمنكر، إلا إذا كان الخلاف ضعيفاً لا قيمة له، فإنه ينكر على الفاعل، وقد قيل: وليس كل خلاف جاء معتبراً إلا خلافاً له حظ من النظر فلو رأيت رجلاً أكل لحم إبل وقام يصلي، فلا تنكر عليه، لأن المسألة خلافية، فبعض العلماء يرى أنه يجب الوضوء من أكل لحم الإبل، وبعضهم لا يرى هذا،لكن لا بأس أن تبحث معه وتبين له الحق.
7. أن للقلب عملاً، لقوله: " فَإن لَم يَستَطِع فَبِقَلبِهِ " عطفاً على قوله: " فَليُغَيرْهُ بيَدِهِ " وهو كذلك. فالقلب له قول وله عمل، قوله عقيدته، وعمله حركته بنية أو رجاء أو خوف أو غير ذلك. 8.
تحفة الأحوذي " ( 6 / 500). ثانياً: وأما ما الذي تنكره: فإنه كل منكر جاء الشرع ببيان قبحه وسوء عاقبة فاعله ، كالزنا والربا والنظر المحرم والسماع المحرم وحلق اللحية وإسبال الثوب وقطيعة الرحم والإحداث في الدين وما شابه ذلك. ولا يشترط أن تكون والياً حتى تغير باليد ، ولا أن تكون عالماً حتى تغير باللسان ، بل يكفي أن تكون قادراً على التغيير ولا يترتب على التغيير مفسدة أو منكر أعظم من الذي أنكرته ، ويكفي أن تكون عالماً أن هذا منكر في الشرع فتنكره بلسانك. وأما التغيير بالقلب فهو أن تبغض هذا المنكر بقلبك وتفارق المكان الذي فيه. ثالثاً: وأما ما سألت عنه من أنك ترى بعض المنكرات فتسأل هل أنكر على أصحابها أم أبلِّغ السلطات ؟ فالجواب: أن هذا بحسب المنكر وفاعله ، فإذا رأيت منكراً من فاعلٍ لا يمكنك إمهاله حتى تبلغ عنه فالواجب أن تنكر عليه تداركاً للوقت خشية ذهاب صاحبه. وإن كان المنكَر كبيراً وعظيماً ولا يمكنك إنكاره وتغييره وحدك: فعليك أن تبلغ السلطات. والمقصود: هو أن يزول المنكر سواء بيدك أو بيد غيرك ، فإن لم تستطع فبلسانك ولا يهمك أن يسمعوا منك أو يعرضوا عنك ، فإنما عليك البلاغ ، وقد يقذف الله في قلب أحدهم الهداية بكلمة منك ، وقد يزين لك الشيطان ترك الإنكار عليهم بحجة أنهم لن يستمعوا إليك فاحذر من هذا.
مجموع الفتاوى " ( 28 / 126 – 128). فعلم أن إنكار المنكر مما يعني المسلم فيجب عليه إنكاره قدر الوسع والطاقة ووفق المصلحة الشرعية ، وأن الذي لا يعنيه لا يمكن أن يكون من الواجبات أو المستحبات. وهذه أقوال العلماء في شرح حديث " من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه ": أ. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ( المسلم) مأمور إما بقول الخير ، وإما بالصمت ، فإذا عدل عما أُمر به من الصمت إلى فضول القول الذي ليس بخير: كان هذا عليه ، فانه يكون مكروهاً والمكروه ينقصه ، ولهذا قال النبي " من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه " ، فإذا خاض فيما لا يعنيه نقص مِن حُسن إسلامه. " مجموع الفتاوى " ( 7 / 49 ، 50). ب. وقال ابن القيم رحمه الله: وقد جمع النبيُّ الورعَ كله في كلمة واحدة فقال " مِن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه " ، فهذا يعم الترك لما لا يعني من الكلام والنظر والاستماع والبطش والمشي والفكر وسائر الحركات الظاهرة والباطنة فهذه الكلمة كافية شافية في الورع. قال إبراهيم بن أدهم: الورع ترك كل شبهة ، وترك ما لا يعنيك: هو ترك الفضلات. وفى الترمذي مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم: يا أبا هريرة " كن ورعاً تكن أعبد الناس ". "