ثم قال: (وَقُل لّلْمُؤْمِنَـاتِ) أراد -جل وعلا- أن يبيِّن أن الأمر عامّ للجميع، وإن كان يكفي الخطاب الأول، لكن ذكر النساء بعد ذكر الرجال ليكون الأمر عامًا ولينتبه كلٌّ من الجنسين: (وَقُل لّلْمُؤْمِنَـاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَـارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ) [النور:31]. أيتها المسلمة، أيها المسلم: كلٌّ منَّا مخاطبٌ بهذا، فالمرأة المسلمة مأمورة بغض بصرها وأن لا تتطلع إلى النظر إلى الرجال، وكذلك الرجل مأمور بغضِّ بصره وأن لا يتطلع بالنظر إلى النساء، فغضّ البصر سبب لزكاة القلب واستقامة الأحوال. النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لأصحابه: "إياكم والجلوسَ في الطرقات" ، قالوا: يا رسول الله: مجالسنا ما لنا منها بدّ، قال: "إن كنتم لا بد فاعلين فأعطوا الطريق حقَّه" ، قالوا: وما حق الطريق؟! قال: "كف الأذى، وغض البصر، وإفشاء السلام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر". فمن حقّ الطريق ومن الحقّ الواجب على الجالس في الطريق أن يكون غاضًّا لبصره، لا يؤذي المؤمنات بنظره إليهن، فإن ذلك من الأذى لا من حقّ الطريق، فحق الطريق أن تغضَّ بصرك عن النظر إلى ما حرّم الله عليك. تفسير " قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم " | المرسال. والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول لعلي –رضي الله عنه-: "لا تُتْبع النظرَةَ النظرة؛ فإن لك الأولى وليست لك الثانية" ، قد تكون نظرةَ فجأة لكن النبي قال له: "لا تتبع النظرةَ النظرة؛ فلك الأولى -أي: عفوٌ- وليست لك الثانية".
والمؤمنات أيضا وحتى لا يظن أحد أن الأمر موجه للرجال فقط أتبع الله هذا بالتأكيد بقوله: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ}(النور:31).. فإن ما يعود على المرأة المسلمة من المفاسد بسبب إطلاق البصر، وما يعود عليها من المنافع عند غضه وحفظه هو مما يتشارك فيه الجنسان ويحصله النوعان الرجال والنساء، فأمروا جميعا بذات الأمر. والآية بلا شك موجهة إلى جميع المؤمنين والمؤمنات، والحديث موجه لجميع الأعمار بإطلاق، ولكن لا شك أن أحوج الناس إلى ذلك هم طائفة الشباب ذكورا وإناثا، وذلك لما فيهم من قوة شهوة، وشدة غلمة، وقابلية للإثارة، وشدة تأثر، وكبير عواقب، أكثر من غيرهم من الشيوخ الكبار أو ممن لم يبلغ حد الشهوة والإثارة.. قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم. فكانوا هم أولى الناس باتباع الأمر وطاعة الرب. فوائد ومنافع غض البصر وقد تكلم العلماء في فضيلة غض البصر وما يعود على صاحبه من فوائد جمة، ومنافع لا تحصى.. فقالوا: إن من فوائد غض البصر: أولا: أنه طاعة لله تعالى الكبير المتعال الذي أمر بغض البصر فقال: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} {النور: 30-31} ثانيا: أنه طاعة لرسول الله صلوات ربي وسلامه عليه القائل: [لا تتبع النظر النظرة، فإن لك الأولى وليس لك الآخرة] (رواه أبو داود والترمذي).
ومن ذلكم أنه أمر المسلم بغضّ بصره، ونهاه أن ينظر إلى ما لا يحلّ له النظرُ إليه خوفاً من أن يؤدِّيَ ذلك النظر إلى الوقوع في الحرام، قال - تعالى -: قُل لّلمُؤمِنِينَ يَغُضٌّوا مِن أَبصَارِهِم وَيَحفَظُوا فُرُوجَهُم [النور: 30]. تأمل أخي المسلم هذه الآية: قُل لّلمُؤمِنِينَ، أمرٌ من الله لنبيِّه أن يخاطب أهل الإيمان المستجيبين لله ورسوله السامعين المطيعين القابلين لأوامر الله المنفذين لها، قُل لّلمُؤمِنِينَ يَغُضٌّوا مِن أَبصَارِهِم، أمرهم بالغض من أبصارهم، لم يقل: غضوها، وإنما قال: غضوا من أبصاركم، أي: غضوا من أبصاركم فلا تنظروا إلى ما حرُم عليكم النظر إليه، واجعلوا النظرَ فيما ينفعكم، لا فيما يضرٌّكم، وسخِّروا تلك الجارحةَ فيما ينفعكم، إِنَّ السَّمعَ وَالبَصَرَ وَالفُؤَادَ كُلٌّ أُولئِكَ كَانَ عَنهُ مَسؤُولاً [الإسراء: 36]. يَغُضٌّوا مِن أَبصَارِهِم وَيَحفَظُوا فُرُوجَهُم، فكان غضّ البصر سبباً لحفظ الفرج، لأن البصر ينفذ إلى القلب، وما تزال تلك اللحظات والنظرات تَتَتابع حتى توقِع في القلب مرضَ الشهوة، فيتحرَّك القلب لذلك الأمر، والقلب هو الحاكم على الجوارح، إذا صلح صلح الجسد كلٌّه، وإذا فسد القلبُ فسد الجسد كلٌّه، كما قال: ((ألا إن في الجسد مضغةً إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب))[4].