"ونفس وما سواها، فألهمها فجورها وتقواها، قد أفلح من زكاها، وقد خاب من دساها".. صدق الله العظيم. "النفس" ذات تعريفات متباينة، فهي الروح أو الدم والجسد.. والحسد، هو نفس المعنى معكوسًا بصورة تامة. النفس الأمارة بالسوء هي: النفس القائمة على الحقد والضغينة، واحتقار الآخر، وإشهار المشاعر السيئة نحوه، وقد يصل الأمر إلى المجاهرة بالكراهية والبغضاء الشديدة التي تؤذي مشاعر الآخرين!! تتباين الثقافات حول ماهية "النفس"، وقال بعض العلماء إنها ذلك "النشاط" الذي يميز الكائن الحي، ويسيطر على حركاته. وفسرها آخرون بأنها القوة الخفية التي يحياها الإنسان "وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ.. ". "النفس" ذات صلة بطيبة القلب، ونقاء السريرة، والمعاملة، وهي كلمات طيبة من القلب، ومن أجمل صفات الإنسان، ويرتاح الناس غالبًا إلى ذوي القلوب الطيبة، ومعاملتهم بيسر ومحبة، على النقيض من التعامل مع ذوي القلوب السوداء الموحشة بالشكوك! هناك عبارات "جميلة" عن "طيبة القلب"، فالطيبون يمنحون القلوب حولهم ثقة عالية، ولا يلمحون باللَون الأسود بالحياة، ويقتربون من الأرواح التي تمر بحياتهم حد الالتصاق والتماهي، ويتعلقون بالتفاصيل والخبايا وسلامة النية.
وكذا الفاجر أبدا خفي المكان ، زمر المروءة غامض الشخص ، ناكس الرأس بركوب المعاصي. وقيل: دساها: أغواها. قال:وأنت الذي دسيت عمرا فأصبحت حلائله منه أرامل ضيعاقال أهل اللغة: والأصل: دسسها ، من التدسيس ، وهو إخفاء الشيء ، فأبدلت سينه ياء كما يقال: قصيت أظفاري وأصله قصصت أظفاري. ومثله قولهم في تقضض: تقضى. وقال ابن الأعرابي: وقد خاب من دساها أي دس نفسه في جملة الصالحين وليس منهم. ﴿ تفسير الطبري ﴾ وقوله: ( وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) يقول تعالى ذكره: وقد خاب في طِلبته، فلم يُدرك ما طلب والتمس لنفسه مِن الصلاح مَنْ دساها يعني: من دَسَّس الله نفسه فأَخْمَلها، ووضع منها، بخُذلانه إياها عن الهدى حتى ركب المعاصِيَ، وترك طاعة الله. وقيل: دسَّاها وهي دَسَّسها، فقُلبت إحدى سيناتها ياء، كما قال العجَّاج:تَقَضِّيَ الْبازِي إذا البازِي كَسَرْ (1)يريد: تَقَضُّض. وتظنَّيت هذا الأمر، بمعنى: تظننت، والعرب تفعل ذلك كثيرا، فتبدل في الحرف المشدّدة بعض حروفه، ياء أحيانا، وواوا أحيانا؛ ومنه قول الآخر:يَذْهَبُ بِي فِي الشِّعْرِ كُلَّ فَنَّحتى يَرُدَّ عَنِّي التَّظَنِّي (2)يريد: التظنن. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس ( وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) يقول: وقد خاب من دَسَّى اللهُ نَفسَه فأضلَّه. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: ( وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) يعني: تكذيبها. حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن خصيف، عن مجاهد وسعيد بن جُبير ( وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) قال أحدهما: أغواها، وقال الآخر: أضلَّها. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن خَصيف، عن مجاهد ( وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) قال: أضلَّها، وقال سعيد: مَنْ أغواها. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: ( مَنْ دَسَّاهَا) قال: أغواها. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) قال: أثّمها وأفجرها. حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، مثله. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: ( وَقَدْ خَابَ) يقول: وقد خاب من دَسَّى اللهُ نفسَه.
هكذا كثير من الناس يُبتلى من حيث لا يدري، لأنه كان في عافية وفضل من الله، فانشغل بغيره، وكل منشغل بغيره فهو ضعيف في نفسه، لأنه لا يقوى على مصارحتها، وكشف ما بها من عطب، فبدلاً من تأديبها، وتقويمها، وإعادتها إلي رشدها، يصارع عدواً وهمياً حتى يظل في ميدان الحروب، وحينها يؤجل كل شيء بعد انتهاء الحرب الخيالية. كن صريحاً مع نفسك، محباً نجاتها، مريداً مصلحتها، ولا تنشغل بغيرها إلا فيما أوجبه الله عليك، لا فيما حرمه الله عليك!!. يقول الدكتور/ مصطفى السباعي في كتابه: هكذا علمتني الحياة: ( إذا همَّت نفسك بالمعصية؛ فذكرها بالله، فإن هي اتعظت؛ فاحمد الله، وإن لم تتعظ، فذكرها بأخلاق الرجال، فإن هي اتعظت؛ فاحمد الله، وإن لم تتعظ، فذكرها بالفضيحة إذا علم بها الناس، فإن هي اتعظت؛ فاحمد الله، وإن لم تتعظ، فاعلم بأن نفسك بعد هذه اللحظة؛ قد تحوَّلت إلى حيوان). استوقفتني هذه الكلمات لأجول بين معانيها و مغزاها؛ فإذا هي تؤصل معانٍ عظيمة، علينا الوقوف أمامها، و تلمس عين الحكمة منها. من النفوس من تقف عند حدود الله، بمجرد التذكير، وأقلِّ الوعظ، وحالها يقول: لا تنظر لصغر الذنوب، ولكن!! انظر إلى عِظم من تعصي، فهؤلاء يعيشون درجة الإحسان في الطاعة، وهي عبادة الخالق كأنه يراك، فإن لم تكن تراه فإنه يراك.