ذكر ابن القيم في مدارج السالكين أن شيخ الإسلام ابن تيمية عرف الزهد بأنه " ترك ما لا ينفع في الآخرة ". وهذا تعريف جامع مانع؛ فالمال يكون طريق إلى الجنة إن أنفقته في سبيل الله، وطريق إلى النار إن أنفقته في حرام، أو منعت زكاته مثلاً. فليس معنى الزهد ترك الدنيا وترك المال، بل ترك الجشع في طلب الدنيا، وألا تشغلك عن الآخرة وطاعة الله، فالمؤمن يطلب الرزق ولكن لا تلهيه دنياه عن آخرته. وقال بعض العلماء: الزهد في الدنيا قصر الأمل، ليس بأكل الغليظ، ولا لبس البالي (الزهد). كيفية الزهد في الدنيا. قال الله: (بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى) [الأعلى:16] فالمشكلة في إيثار أي الدارين على الأخرى، وأيتهما تكون لها الأولوية في حياة العبد. فقد كان سليمان وداود عليهما السلام من أزهد أهل زمانهما، مع أن الله قد آتاهما الملك والسلطان، وكان نبينا محمد ﷺ من أزهد البشر على الإطلاق في متع الدنيا ومع ذلك فقد تزوج بتسع نسوة وكان يدخر لأهله قوت سنة كاملة، وكان عبد الرحمن ابن عوف من كبار الزهاد مع ما كان له من الأموال الطائلة. وسئل بعضهم عمن معه مال هل يكون زاهداً؟ قال: "إن كان لا يفرح بزيادته ولا يحزن بنقصه فهو زاهد ". (جامع العلوم والحكم) فالعبرة بزهد القلب لا بوضعك المالي أو غير ذلك، قال ﷺ: (من كانت الآخرة همه جمع الله شمله وجعل غناه في قلبه وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همه شتت الله شمله وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له) رواه الترمذي.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم أزهد الناس ولم يحرم على نفسه شيئاً أباحه الله له، قال الإمام أحمد بن حنبل: الزهد ثلاثة أوجه، الأول ترك الحرام، وهو زهد العوام، والثاني ترك الفضول من الحلال، وهو زهد الخواص، والثالث ترك ما يشغل عن الله، وهو زهد العارفين. ولا ينافي معنى الزهد الأخذ من طيبات الحياة الدنيا على قدر الحاجة، فقد كان من الصحابة من لديه الأموال الكثيرة، والتجارات العديدة. قال أهل العلم: حقيقة الزهد أن تجعل الدنيا في يدك لا في قلبك، مقبلاً على ربك مبتعداً عن الحرام، مستعيناً بشيء من المباحات. قال العارفون: الزاهد هو الذي يقنع بما آتاه الله ولا يأسى على ما فاته من الدنيا ولا يعلق قلبه بغير ربه تعالى ويكون بما في يد الله أوثق مما في يده، ويعرض عن كل ما يشغله عن ربه وعبادته، وقال الفضيل بن عياض: أصلُ الزهد الرضا عن الله عز وجل. الزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة. وسئل الزهري عن الزاهد فقال: من لم يغلب الحرام صبره، ولم يشغل الحلال شكره، ويقول ابن القيم في الزاهد: هو لله وبالله ومع الله وما أعظم أنسه بالله وفرحه به وطمأنينته وسكونه إليه. جميع الحقوق محفوظة لصحيفة الاتحاد 2022©
ومراد أحمد -رحمه الله- التنبيه على ألا يكون المال فتنة ينشغل المرء به؛ فيذهب معه عقله حيث ذهب، فيدور حول المال سروره وأحزانه، فينسى أمر الآخرة.
فما أعظم هذه الوصية النبوية ، وما أشد حاجتنا إلى فهمها والعمل بمقتضاها ، حتى ننال بذلك المحبة بجميع صورها.
ولقد وعى سلفنا الصالح تلك المعاني ، وقدروها حقّ قدرها ، فترجموها إلى مواقف مشرفة نقل التاريخ لنا كثيرا منها ، وكان حالهم ما قاله الحسن البصري رحمه الله: " أدركت أقواما وصحبت طوائف ما كانوا يفرحون بشيء من الدنيا إذا أقبل ، ولا يأسفون على شيء منها إذا أدبر ، وكانت في أعينهم أهون من التراب ". ص252 - كتاب فصل الخطاب في الزهد والرقائق والآداب - شروط التوبة الصادقة - المكتبة الشاملة. لقد نظروا إليها بعين البصيرة ، ووضعوا نُصب أعينهم قول الله تعالى: { يا أيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور} (فاطر: 5) ، وقوله: { واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح} ( الكهف: 45) ، فهانت عليهم الدنيا بكلّ ما فيها ، واتخذوها مطيّة للآخرة ، وسبيلاً إلى الجنّة. ثم يعلمنا النبي صلى الله عليه وسلم السبيل إلى محبة الناس فقال: ( وازهد فيما عند الناس يحبّك الناس) ، ومعنى ذلك: ألا يكون القلب متعلقا بما في أيدي الناس من نعيم الدنيا ، فإذا فعل العبد ذلك ، مالت إليه قلوب الناس ، وأحبته نفوسهم. والسرّ في ذلك أن القلوب مجبولة على حب الدنيا ، وهذا الحب يبعثها على بغض من نازعها في أمرها ، فإذا تعفف العبد عما في أيدي الناس ، عظم في أعينهم ؛ لركونهم إلى جانبه ، وأمنهم من حقده وحسده.
انتهى. والله أعلم.