ثم يعبر بنا مساعد لنكتشف الكنة سويًّا، واسمها مأخوذ من الشيء المكنون المخفي المتصف بالمفاجأة، ما بين حر ومطر وغبار، حينما تختفي الثريا عن الأنظار، كل من يعرف هذه القصيدة يفهم مدى روعتها، ويعرف أنها من تلك القصائد التي لا تخرج منك بقية حياتك، هي ذاتها التي تحمل الصورة الشعرية الرائعة: "فجر نعس بالوريد ونام بهدومه". و "سيف العشق" كان فيها ذلك المزيج من التهكم والأمل الذي يميز حياة مساعد كما صورها شعره: " إن ما ظميتك غلا يا علّني ما ارتويك" و " أعنّ لك لو تصب الموت واتهيا لك". باعتقادي كانت ستكفيه الكلمات غير المباشرة والإشارات العادية التي ستشرح لمحبوبته اهتمامه، لكنه يرفض الموقف العادي ويختار الشجاعة والموقف الأصيل.
أعرف كلمات مساعد من بين كلّ الكلمات، وأتذكّر صوت فتى رحيمة في أوّل مرّة استمعت له مصادفة، عرفت كلمة مساعد، عرفتها وقلت: لا بد لبيت كهذا أن يكون له "عبرتك منديلها قلبي وكُمّي ضحكتك نبض العروق ودمها" كنت أراهن بشجاعة كبيرة كلما أتى صوت رحيمة وأقول إنّه مساعد: "جيت لك من جمر الشوق متحمّي، كل ما تبرد طعوني ضمها" أعرف هذا الكرم في المحبة الذي لطالما عبر عنه مساعد، كانت لقصائده روح شهمة، حتى في مواساته كان دائم الجود، إذ كان يتخذ من موقف المحب الثابت القوي موقفًا صريحًا حين يقول: "مدّي يدينٍ عاهدتها يديّا ياللي سماك ملبدة برق وغيوم لا تشتكين اللوم وأنا هنيَّا أنا هنيّا لأجل ما يلحقك لوم! ياللي جبينك من غلاه الثريا ما عاشرت شمسٍ ولا خاوت نجوم إن كان ما جتني عليك الحميّا ما عاد لي في باقي العمر ملزوم ما فزّ قلبي للنواعس كذيّا إلا يبي يصبح عوضها عن النوم نامي وخلي كل همٍ عليّا مالله خلق هالجفن لسهاد وهموم لا تندهيلي واصلٍ لك بليّا لو نكسر قلوبٍ ولو نزعل خشوم قام يتعَزْوا في حديّا حديّا يوم انحدر دمعٍ عن الذل محشوم راسي خلق بالطايلات يْتفَيَّا وخدّك تفيّا بالهَدب جعله القوم كان الذي في خاطرك ما تهيّا؟ ماني ولد عودٍ كفَخ وابعد الحوم كل كلمة في هذه القصيدة مصبوغة بذلك الشعور الذي يشبه الغرق الوشيك، إنّها الجسارة في مواجهة حبيبة كانت عيناها تتوسل من أجل إنقاذٍ مستحيل.
فيما بعد تعرفت على مساعد الرشيدي الذي ابتعد عن رخاوة الشعراء والكُتّاب وشكواهم الدائمة، مع أنه برأيي أفضل من يعبر عن عذاباتي، وأكثر من يعلمني الصبر. إن بعض الثناء يبخس الفضل أحيانًا، وهذا ما أخشى ارتكابه الآن. مساعد يشبه الألفة في حياتي، كان يُعيدني إلى الطريق كلما شعرت أنّني لم أعد أعرف جغرافيّة مدينتي وبلادي وقلبي، كان يستعيدني بشكل أو بآخر. كانت قصائده دائمًا ما تشيع فيّ بهجة تتنافى مع كل الأخبار والأحوال التي أعيشها. "قمت أخيلك هنا وهناك وهناك، وين ترحل بي النظرة نصيتك عين تشربك شوف وعين تضماك لا ذبحني ضماك ولا رويتك" إنها تجاربنا، ترددنا، الجحيم الذي نعجز عن الاستغاثة من نيرانه، كان مساعد يعرضه بصوت عبد المجيد هنا: "صوتك اللي بقى لي من ليالينا عاد لو غاب صوتك ويش يبقى لي.. صوتك الموج والمجداف والمينا صوتك الناس لو إني بخلا خالي" يكتب مساعد وهو يعرف أنه يستطيع تحريرنا من شظايا هذا الحب، يجعلنا نأوي لفكرة الأُنس فيه "صوتك الناس لو إني بخلا خالي" شعور عميق للغاية، وقديم للغاية، كأنما كان يمنحني الفرصة لكي أرى انعكاسًا لأشباح مخاوفي في تلك الحياة المفترض أن تكون محطمة عبر الوحدة. "مالها حدّ شرهتنا وأمانينا والمسافات قشرا ما لها والي يقبل الليل لا مرفا ولا مينا عاد لو غاب صوتك ويش يبقالي" شعور الأسف حيال فكرة أنه لم يتبق من حياة طويلة ومشتركة سوى هذه الحصيلة من الوحشة، والجرح، والحسرة.
كنت أجهل حينها كل الصعوبات الآتية في طريق حياتي، وأنّه لا يوجد أيّ شخص قادر على قراءة المآسي المستقبليّة في لعبة الحظ التي يمارسها في الحاضر. حينها جاء مساعد ليعيدني ويستعيدُني بقوله: "مابه حياة من غير موت" كنت أشعر أن المأساة تحوم فوق تلك السنوات العشرين من عمري، دون أن تقرر الحط على أيٍّ منها، أشعر أنّني وحدي وكأنّ الآخرين - جميع الآخرين - بمنجاة من الرعب الذي أعيش فيه، وحدي الضحية المحتملة للحظ الفظيع. حتى جاء مساعد ليقول: " نطيب لو عيّت ليالينا تطيب" كسر حدّة الوحشة ومخالب الوحدة، أصبح الإذعان للضيق المثير للقشعريرة بمعرفتنا بأنّ كلَّ ما نحبّ يمكنه أن يفنى من لحظة إلى أخرى، مستحيل، أعطاني اليقين بالحبّ والحياة والقدرة على المقاومة دائمًا، وأنّ الكون يميل للتوازن، عاجلًا أو آجلًا ستعود الأمور إلى نصابها الصحيح. لذا، في البدء كان مساعد.