وثانيها: إني كنت قد ربيتك فلو منعتك الآن مطلوبك لكان ذلك ردا بعد القبول وإساءة بعد الإحسان فكيف يليق بكرمي. وثالثها: إنا لما أعطيناك في الأزمنة السالفة كل ما احتجت إليه ورقيناك من حالة نازلة إلى درجة عالية دل هذا على أنا نصبناك لمنصب عال ومهم عظيم فكيف يليق بمثل هذه الرتبة المنع من المطلوب ، وههنا سؤالان: السؤال الأول: لم ذكر تلك النعم بلفظ المنة مع أن هذه اللفظة لفظة مؤذية والمقام مقام التلطف ؟ والجواب إنما ذكر ذلك ليعرف موسى عليه السلام أن هذه النعم التي وصلت إليه ما كان مستحقا لشيء منها بل إنما خصه الله تعالى بها بمحض التفضل والإحسان. السؤال الثاني: لم قال مرة أخرى مع أنه تعالى ذكر مننا كثيرة ؟ والجواب: لم يعن بمرة أخرى مرة واحدة من المنن لأن ذلك قد يقال في القليل والكثير.
كما قال سيدنا عبدالله بن عمر بن الخطاب عندما حدثت الفتنة بين المسلمين بعد مقتل سيدنا عثمان بن عفان "والله لولا أن مالي وأهلي بأرض رسول الله لما وجدت أطيب و خير من برقة لأمكث بها". كما وصفها البكري في كتابه بأنها دائمة الرخاء كثيرة الخير، كما ان برقة فتحت ودخل اهلها الى الاسلام دون حرب ودماء ففتحت سلميا وبشر "عمرو بن العاص" امير المؤمنين عمر بن الخطاب ان برقة قد فتحت سلميا فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه "اللهم احمي برقة ورجال برقة اهل الرحمه والشفقة". قال قد اوتيت سؤلك يا موسى. وقال الواقدي: وكان عبد الله بن عمرو بن العاص يقول: "لولا مالي بالحجاز لنزلت برقة فما أعلم منزلاً أسلم ولا أعزل منها". ويقول الكثيرون ان قول الحجاج الذي اختلف فيمن يقصدهم،وتعددت الروايات،انه كان يقصد به اهل برقة.
ويجوز أن يكون (فتونا) جمعا لفتنة فيكون اسما. (اصطنع)، فيه (إبدال) تاء الافتعال طاء لمجيئها بعد الصاد وأصله اصتنعتك. البلاغة: 1- الإبهام: في قوله تعالى: (ما يُوحى) إبهام مجرد وهو كثير في القرآن الكريم. 2- التنكير: في قوله تعالى: (محبة). نكّر المحبة، لما في تنكيرها من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية، أي محبة عظيمة كائنة مني قد زرعتها في القلوب فكل من رآك أحبك بحيث لا يصبر عنك. 3- الاستعارة التمثيلية: في قوله تعالى: (وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي). تمثيل لشدة الرعاية، وفرط الحفظ والكلاءة، بمن يصنع بمرأى من الناظر، لأن الحافظ للشيء- في الغالب- يديم النظر إليه، فمثّل لذلك بمن يصنع على عين الآخر. 4- الاستعارة التبعية: في قوله تعالى: (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي). لقد شبّه ما خوّله به من القرب والاصطفاء، بحال من يراه الملك أهلا للكرامة وقرب المنزلة، لما فيه من الخلال الحميدة فيصطنعه، ويختاره لخلّته ويصطفيه لأموره الجليلة، واستعار لفظ اصطنع لذلك. الفوائد: 1- ولقد مننا عليك مرة أخرى. قد اوتيت سؤلك يا موسى. فما هي المنن التي من الله بها على موسى؟ والجواب أنها قد تبلغ الثمانية أو تزيد، أ- قوله: (إِذْ أَوْحَيْنا) إلخ. ب- (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي).