في حين أن كعب بن مالك لم يمنعه عن الخروج والجهاد إلا التردد والتسويف، فكلما أراد أن يجهز نفسه للغزو ترده نفسه، إلى أن غادر الجيش ولم يعد باستطاعته اللحاق به. تقرير حال الصحابة ثلاثة بعد انتهاء غزوة تبوك وما إن انتهت الغزوة وعاد المسلمون حتى بدأ المنافقون بالدخول على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقدموا له الأعذار، فيقبل منهم أعذارهم، ويستغفر لهم، ويوكل سرائرهم إلى الله. وعندما سمع كعب بذلك بدأ يفكر في عذر يقدمه لرسول الله فلم يستطع، وكيف يكذب على نبي الهدى الصادق الأمين، ولكن لم يكن له من مهرب، فعزم على قول الصدق مهما كانت النتائج. ودخل كعب بن مالك رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووصف لنا مشهد لقائه برسول الله بنفسه كما جاء في صحيح البخاري كتاب المغازي حديث رقم 4156. قصة الثلاثة الذين خلفوا عن غزوة تبوك | شؤون دينية | وكالة أنباء سرايا الإخبارية - حرية سقفها السماء. فقال: "فَجِئْتُهُ فَلَمَّا سَلَّمْتُ عَلَيْهِ تَبَسَّمَ تَبَسُّمَ الْمُغْضَبِ، ثُمَّ قَالَ «تَعَالَ». فَجِئْتُ أَمْشِي حَتَّى جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ لي: «مَا خَلَّفَكَ أَلَمْ تَكُنْ قَدِ ابْتَعْتَ ظَهْرَكَ». فَقُلْتُ: بَلَى، إِنِّي وَاللَّهِ لَوْ جَلَسْتُ عِنْدَ غَيْرِكَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا، لَرَأَيْتُ أَنْ سَأَخْرُجُ مِنْ سَخَطِهِ بِعُذْرٍ، وَلَقَدْ أُعْطِيتُ جَدَلاً، وَلَكِنِّي وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُ لَئِنْ حَدَّثْتُكَ الْيَوْمَ حَدِيثَ كَذِبٍ تَرْضَى بِهِ عَنِّي لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ أَنْ يُسْخِطَكَ عَلَيَّ، وَلَئِنْ حَدَّثْتُكَ حَدِيثَ صِدْقٍ تَجِدُ عَلَيَّ فِيهِ إِنِّي لأَرْجُو فِيهِ عَفْوَ اللَّهِ، لاَ وَاللَّهِ مَا كَانَ لِي مِنْ عُذْرٍ، وَاللَّهِ مَا كُنْتُ قَطُّ أَقْوَى وَلاَ أَيْسَرَ مِنِّي حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْكَ.
كما أنهم أصبحوا من المنبوذين بين المسلمين، وخلال ذلك التزم كُلًّا من هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ، مُرَارَةَ بْنِ الرَّبِيعِ بيوتهما يبكيان، بينما كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ فقد كان يجول بين المسلمين دون أن يتحدث إليه أحد. بعدما مر 40 ليلة من الليالي التي مرت ثقيلة على الثلاثة، أمر المولى جل وعلا بأن يعتزلوا نسائهم. حيث ذهبَ كعبٌ لإرسال امرأتِه إلى بيتِ أهلِها، وبينما توجهت امرأة هلال بن أميّة إلى رسول الله تستأذنه في البقاء بجوار زوجها لكبر سنّه. قصه الثلاثه الذين خلفوا عن غزوه تبوك. فما من نبي الله إلا أن أذن لها بشرط ألا يمسّها. عقب مرور 10 ليال أخرى وهم يتكبدون المشقة والحزن الشديد ويستمرون في البكاء والتضرع لقبول توبتهم والغفران لهم. حتى أتت البشرى والفرج من الله سبحانه وتعالى بقبول توبتهم، لما ورد في قوله تعالى: "لَّقَد تَّابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ ۚ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ" الآية 117 سورة التوبة. واستكمالًا لما ورد عنهم بالآيات القرآنية في قوله تعالى: "وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَن لَّا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرّحِيمُ".
فلما مضت خمسون ليلة أذن الله بالفرج وجاءت التوبة ، قال كعب: فما أنعم الله علي بنعمة بعد الإسلام ، أعظم في نفسي من صدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ ، و الله ما أعلم أحداً ابتلاه الله بصدق الحديث بمثل ما ابتلاني. والآيات التي نزلت في توبتهم هي قوله تعالى: { وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لاملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم * يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين} ( التوبة:118،119). وهكذا أزاح الله هذه الغشاوة المحزنة عن هؤلاء النفر الثلاثة، بعدما كادوا يقعون في الهلاك بسبب تخلفهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فضاقت عليهم الأرض رغم رحابتها، وضاقت عليهم أنفسهم، فعلموا أن الملجأ من الله لا يتم إلا بالعودة إليه، فاستجاب الله لهم ،وغفر زلتهم، وهذه القصة اشتملت على فوائد و عبر كثيرة: منها: أن القعود عن الجهاد عند استنفار الإمام يعد إثما كبيرا في الإسلام تجب التوبة منه. ومنها: تعامل الصحابة مع أمر النبي صلي الله عليه وسلم، وتنفيذهم له ،حتى ولو كان الأمر يتعلق بأقاربهم. ومنها: ولاء الصحابة الصادق لله ،فرغم فداحة الحادثة وصعوبة المقاطعة لم يفكر كعب بن مالك في اللحاق بالكافرين ولم يلتفت إلى عرضهم.