لذا فالنية الحقيقية لا بد أن تتجه نحو «العفو»، مصداقاً لقوله تعالى: «ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور». التسامح والعفو من عزم الأمور وقد لا يطيقهما إلا الأقوياء والصابرون، وحتى لا يتأبط البعض الشر تجاه الآخر، في محاولة قد تؤدي إلى انتكاسة في مشروع المصالحة الوطنية، لا بد أن يكون هناك مشروع وطني واضح المعالم محدد الخطوط، فقد يبدأ بمؤتمر للمصالحة لننتهي بخطوات عملية يتم فيها جبر الضرر بالتعويض المعنوي أولاً، والمادي ثانياً، ومعرفة من أخطأ، ومن ثم يأتي دور العفو «فاصفح عنهم وقل سلام فسوف يعلمون». فالجميع له أخطاء، ولكن من غير المقبول أن نقف عند الخطأ، وعلينا أن نبدأ بإصلاح أنفسنا، وتقويم الاعوجاج، وعلينا بتفعيل الحراك السياسي والثقافي وترسيخ مفهوم ديمقراطي يتخلى فيه الفرد عن فكرة العبودية الطوعية للقبيلة، وتحرير العقل المرتهن عند ثقافة القبيلة بمفهومها السلبي. تفسير آية:وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ. وللخروج من أخطاء الماضي ينبغي التغيير من الذات ومن الأنفس، كما قال الله تعالى: «إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم»، فالله العظيم لا يغير أحداً، إن هو لم يقبل التغيير بنفسه في لغة سماوية على التخيير لا لغة الإجبار والإكراه، ولكي نضمن عدم تكرار أخطاء الماضي، لا بد من تطوير المؤسسات الأمنية والشبابية والثقافية والدينية والاقتصادية والتي كانت طرفاً أو مسؤولة بشكل أو بآخر، قد يكون هذا لعدم دراية أو لعدم قدرة على استيعابها، المهم أياً كانت الأسباب، فنحن في حاجة لتطوير هذه المؤسسات لتستوعب المفهوم الديمقراطي، وتطور العصر.
إن الظلم مرتعه وخيم وعاقبته سيئة، والإنسان قد يظلم ربه حين يشرك معه غيره، فيستحق عقابه، وقد يظلم نفسه بحرمانها من الهداية ومنعها من الاستقامة، والزج بها في مستنقعات الشهوات ومهاوي المعاصي والسيئات، وقد يظلم الناس من حوله بصدهم عن سبيل الله وأذيتهم في ذلك، والتسلط على أموالهم وأعراضهم بالعدوان، وقد أعد الله للظالمين العذاب الأليم. تفسير قوله تعالى: (إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق... ليبيا ومشروع المصالحة الوطنية. ) تفسير قوله تعالى: (ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور) ثم قال تعالى: وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [الشورى:43]، الذي يؤذيه مؤمن فاسق أو فاجر ويصبر فهذا من الأمور التي هي مطلوبة ومرغب فيها، مؤمن ظلمك لجهله أو فسقه فصبرت وما انتقمت منه؛ فهذا الصبر ممدوح، ذكره الله تعالى بقوله: وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [الشورى:43] الأمور المرغب فيها المدعو إليها. إذاً: هناك فرق بين جماعة تقتل المسلمين وتذبحهم وتدمرهم، وبين شخص يعتدي على شخص، فالجماعة التي تقاتل المسلمين وتبغي عليهم ظلماً وعدواناً يقاتلون، أذن الله في قتالهم، وفتح السبيل إليهم، ومؤمن ظلم آخر لجهله أو فسقه؛ فإن صبر ولم ينتقم فذلك خير له، ولكن لو أخذ حقه -كما تقدم- فيجوز له ذلك، أخذ شاتك تأخذ شاته، أخذ إزارك تأخذ إزاره، ومع هذا لو صبرت لكان خيراً.
تفسير آية:وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} ( الشورى 43) قوله تعالى: " ولمن صبر وغفر " أي صبر على الأذى و (( غفر)) أي ترك الانتصار لوجه الله تعالى ، وهذا فيم ظلمه مسلم ، ويحكى أن رجلاً سب رجلاً في مجلس الحسن رحمه الله فكان المسبوب يكظم ويعرق فيمسح العرق ، ثم قام فتلا هذه الآية ، فقال الحسن: عقلها والله! وفهمها إذ ضيعها الجاهلون ، وبالجملة العفو مندوب إليه ، ثم قد ينعكس الأمر في بعض الأحوال فيرجع ترك العفو مندوباً إليه كما تقدم ، وذلك إذا احتيج إلى كف زيادة البغي وقطع مادة الأذى ، و" عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل عليه ، وهو أن زينب أسمعت عائشة رضي الله عنهما بحضرته فكان ينهاها فلا تنتهي ، فقال لعائشة: دونك فانتصري " ، خرجه مسلم في صحيحه بمعناه.
.... نشر في: 21 أبريل, 2021: 03:55 ص GST آخر تحديث: 21 أبريل, 2021: 03:57 ص GST ليبيا بعد حكومة الوحدة الوطنية، في حاجة لمشروع جاد ومقنع وفعال للمصالحة الوطنية، ولعل النموذج الجنوب أفريقي هو الأقرب معالجة للحالة الليبية من غيرها من النماذج، حتى إن كان البعض يرى النموذج اللبناني بعد الحرب الأهلية هو الأقرب، ولكنني أختلف معهم في هذه المقاربة، لكون النموذج اللبناني كانت الحرب فيه لأسباب طائفية، الأمر الغائب في الحالة الليبية، والتي يجعل من فرصة المصالحة الوطنية فيها كبيرة، رغم محاولات ودعوات الانفصال عن الكيان الاتحادي تحت مسمى ليبيا. فجلوس الليبيين من دون غالب أو مغلوب على طاولة واحدة هو الحل، ولا يمكن تحقيق مصالحة وطنية بغالب ومغلوب، والبدء في مشروع المصالحة الوطنية هو أولى الخطوات الحقيقية نحو بناء مشروع ليبيا الجديدة، وحتى لا يبقى الخطاب مجرد كلام مرسل، فلا بد من تفعيله نحو جبر الضرر، ومعالجة الخطأ ودفع الظلم وإحقاق الحق، وكما قال تعالى: «ادفع بالتي هي أحسن»، فيتحول خصوم الماضي إلى أحباب الحاضر. التعالي عن الخلافات والقبول بالآخر والتعايش معه هي أولى خطوات المصالحة الوطنية، الابتعاد عن منطق المطالبة «بكليب حياً» فتعديد الأسباب والمسببات للحرب والصراع مهم، ولكنه أحياناً يعرقل المصالحة الوطنية.
واللّامُ الدّاخِلَةُ عَلى (مَن) لامُ ابْتِداءٍ و(مَن) مَوْصُولَةٌ. وجُمْلَةُ ﴿إنَّ ذَلِكَ لَمِن عَزْمِ الأُمُورِ﴾ خَبَرٌ عَنْ (مَن) المَوْصُولَةِ، ولامُ ﴿لَمِن عَزْمِ الأُمُورِ﴾ لامُ الِابْتِداءِ الَّتِي تَدْخُلُ عَلى خَبَرِ (إنَّ) وهي مِن لاماتِ الِابْتِداءِ. وقَدِ اشْتَمَلَ هَذا الخَبَرُ عَلى أرْبَعَةِ مُؤَكِّداتٍ هي: اللّامُ، وإنَّ، ولامُ الِابْتِداءِ، والوَصْفُ بِالمَصْدَرِ في قَوْلِهِ: ﴿عَزْمِ الأُمُورِ﴾ تَنْوِيهًا بِمَضْمُونِهِ، وزِيدَ تَنْوِيهًا بِاسْمِ الإشارَةِ في قَوْلِهِ: (إنَّ ذَلِكَ) فَصارَ فِيهِ خَمْسَةُ اهْتِماماتٍ. والعَزْمُ: عَقْدُ النِّيَّةِ عَلى العَمَلِ والثَّباتُ عَلى ذَلِكَ، والوَصْفُ بِالعَزْمِ مُشْعِرٌ بِمَدْحِ المَوْصُوفِ لِأنَّ شَأْنَ الفَضائِلِ أنْ يَكُونَ عَمَلُها عَسِيرًا عَلى النُّفُوسِ لِأنَّها تُعاكِسُ الشَّهَواتِ، ومِن ثَمَّ وُصِفَ أفْضَلُ الرُّسُلِ بِأُولِي العَزْمِ. والأُمُورُ: جَمْعُ أمْرٍ. والمُرادُ بِهِ هُنا: الخِلالُ والصِّفاتُ، وإضافَةُ عَزْمٍ إلى الأُمُورِ مِن إضافَةِ الصِّفَةِ إلى المَوْصُوفِ، أيْ مِنَ الأُمُورِ العَزْمِ. ووَصْفُ الأُمُورِ بِـ (العَزْمِ) مِنَ الوَصْفِ بِالمَصْدَرِ لِلْمُبالَغَةِ في تَحَقُّقِ المَعْنى فِيها، (p-١٢٣)وهُوَ مَصْدَرٌ بِمَعْنى اسْمِ الفاعِلِ، أيِ الأُمُورُ العازِمَةُ العازِمُ أصْحابُها مَجازًا عَقْلِيًّا.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي ، حدثنا عمران بن موسى الطرسوسي ، حدثنا عبد الصمد بن يزيد - خادم الفضيل بن عياض - قال: سمعت الفضيل بن عياض يقول إذا أتاك رجل يشكو إليك رجلا فقل: " يا أخي ، اعف عنه ". فإن العفو أقرب للتقوى ، فإن قال: لا يحتمل قلبي العفو ، ولكن أنتصر كما أمرني الله عز وجل. فقل له إن كنت تحسن أن تنتصر وإلا فارجع إلى باب العفو ، فإنه باب واسع ، فإنه من عفا وأصلح فأجره على الله ، وصاحب العفو ينام على فراشه بالليل ، وصاحب الانتصار يقلب الأمور. وقال الإمام أحمد: حدثنا يحيى - يعني ابن سعيد القطان - عن ابن عجلان ، حدثنا سعيد بن أبي سعيد ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه أن رجلا شتم أبا بكر والنبي - صلى الله عليه وسلم - جالس ، فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يعجب ويتبسم ، فلما أكثر رد عليه بعض قوله ، فغضب النبي - صلى الله عليه وسلم - وقام ، فلحقه أبو بكر فقال: يا رسول الله إنه كان يشتمني وأنت جالس ، فلما رددت عليه بعض قوله غضبت وقمت! قال: " إنه كان معك ملك يرد عنك ، فلما رددت عليه بعض قوله حضر الشيطان ، فلم أكن لأقعد مع الشيطان ". ثم قال: " يا أبا بكر ، ثلاث كلهن حق ، ما من عبد ظلم بمظلمة فيغضي عنها لله ، إلا أعز الله بها نصره ، وما فتح رجل باب عطية يريد بها صلة ، إلا زاده الله بها كثرة ، وما فتح رجل باب مسألة يريد بها كثرة ، إلا زاده الله بها قلة "وكذا رواه أبو داود ، عن عبد الأعلى بن حماد ، عن سفيان بن عيينة - قال: ورواه صفوان بن عيسى ، كلاهما عن محمد بن عجلان ورواه من طريق الليث ، عن سعيد المقبري ، عن بشير بن المحرر ، عن سعيد بن المسيب مرسلا.