ويرى هيدغر: "إذا كنا نفهم من النزعة الإنسانية بوجه عام الجهد الرامي إلى جعل الإنسان حرًا من أجل إنسانيته، وإلى تمكينه من اكتشاف كرامته، فإن النزعات الإنسانية ستختلف حسب التصور الذي يكون لدينا عن الحرية وعن طبيعة الإنسان، وستتباين بنفس الكيفية وسائل تحقيقها، فالنزعة الإنسانية لدى ماركس لا تتطلب أية عودة إلى القديم، تمامًا كما هو الشأن بالنسبة للنزعة الإنسانية التي يتصورها سارتر تحت اسم الوجودية، وبالمعنى العام المشار إليه سالفًا تكون المسيحية أيضا نزعة إنسانية، من حيث إن كل شيء في مذهبها يرتبط بخلاص النفس وأن تاريخ الإنسانية يندرج في إطار تاريخ الخلاص. إنسانيون بلا حدود. غير أنه مهما اختلفت أشكال النزعة الإنسانية من حيث الهدف والأساس، والصيغة ووسائل التحقيق، تتفق رغم ذلك حول هذه النقطة وهي كون إنسانية الإنسان الإنساني تكون محددة انطلاقا من تأويل وضع قبلًا: للطبيعة، للتاريخ، للعالم، لأساس العالم أي للموجود في كليته". كانت بداياتُ النزعة "الإنسانيَّة" أدبيةً، لكنها تمدّدت بالتدريج فاستوعبت الفلسفةَ والعلومَ والفنونَ والمعارفَ البشرية المتنوّعة، واللاهوتَ وكلَّ ما يتصل بالمعارف الدينية. وأعلن الإنسانيون موقفَهم الواضحَ الذي أعاد الثقةَ بقدرةِ العقل والاهتمامِ بدوره البنّاء في حياةِ الإنسان وتكوينِ معارفِه وخبراتِه المتنوّعة، واستوعب مفهومُ "الإنسانيَّة" بالتدريج القيم الأخلاقيةَ، والحقوقَ البشريةَ التي يستحقّها كلُّ إنسان بوصفه إنسانًا، من دون نظر لجنسه أو معتقده أو هويته العرقية.
وهذا اعتقادٌ يتعارض بشدّة مع المسيحيّة، التي كانت في المقام الأوّل هي الاعتقاد بخلاص الإنسان بقدرة الله وحده وبالإيمان". وهو يعني أن فكرةَ "الإنسانيَّة" كأيّة فكرةٍ ينتجها البشرُ في التاريخ، فحين تظهر، في زمان ومكان ومجتمع، تتطور دلالتُها ويتكرّس معناها ويتبلور، وتتنوّع مصاديقُها وتتعدّد على وفق مراحلِ صيرورتِها المجتمعية، واستمراريتِها وتواصلِ حضورها في المجالات المختلفة. عيد الحب.. – وكالة الراصد نيوز24. فرانشيسكو بترارك ( 1304 – 1374) لم تحتفظ دلالة "الإنسانيَّة" بمعناها كما هو لحظة البدايات، بوصفها تمثل اتجاهًا لغويًا أدبيًا جماليًا يهدف لإحياء التراث اليوناني والروماني، بل اكتسب ذلك المعنى مضمونًا فلسفيًا يتحدث لغة العقلانية النقدية، ويكتسي منطق التنوير ومقولاته ورؤيته للعالَم، وواصل معنى "الإنسانيَّة" صيرورته تبعًا لما ينعكس عليه من إضافات ومكاسب الفلسفة وعلوم الإنسان والمجتمع ورؤية العالَم المتغيرة من عصر إلى آخر. وتنوع معنى "الإنسانيَّة" تبعًا لتنوع الموقف الميتافيزيقي، وكيفية فهم الطبيعة الإنسانية، ونمط الرؤية للعالَم. وذلك ما أشار إليه رالف بارتون بري في كتابه: "إنسانية الإنسان"، بقوله: "ليس هناك من تعريف دقيق، منطقيا كان أم رياضيا للمذهب الإنساني، فإن المعاني المختلفة التي ارتبطت بهذا التعبير ما هي إلا انعكاسات لتفكير حقب مختلفة من تاريخ الإنسانية، ولمضامين شخصية واجتماعية متنوعة".
يؤكد أندريه لالاند في موسوعته الفلسفية أن مصطلحَ "الإنسانيَّة" لم يولد في العصر الحديث إلّا في مطلع القرن التاسع عشر سنة 1806، عندما استعمله أحدُ المفكرين الألمان في ذلك التاريخ، وكان يريد به: "النظام التربويّ التقليديّ الذي يرمي إلى تكوين الشخصيّة الكلّيّة والإنسانيَّة بواسطة الإنسانيّات". القمر العملاق يضئ سماء دول العالم قبل الخسوف الكلي - عاشق عُمان. ويصف لالاند الـ "إنسانويّة" بأنها: "حركة فكريّة، يمثّلها إنسانويّو النّهضة، وهي تتميّز بمجهود لرفع كرامة الفكر البشريّ، وجعله جديرًا، ذا قيمة، وذلك بوصل الثقافة الحديثة بالثقافة القديمة، فيما يتعدّى العصر الوسيط والمدرسيّة". ويضيف لالاند: "ليس الإنسانوي هو الذي يعرف القدامى، ويستوحي منهم، إنّه ذلك الذي يكون منبهرًا، منسحرًا بنفوذهم وسحرهم، لدرجة أنّه يقلّدهم حرفيًّا، يحاكيهم، يكرّرهم، يتبنّى نماذجهم، أمثلتهم، آلهتهم، روحيّتهم ولغتهم. إنّ حركةً كهذه مدفوعةً إلى أقاصيها المنطقيّة، لا تنزع إلى شيء أقل من إلغاء الظاهرة المسيحية". يشي توصيفُ لالاند لـ "الإنسانويّ" بأن المجتمعَ كان ينظر بنظرةِ ارتيابٍ إليه، والى عدمِ تفهّمه دعوتَه وجهودَه، وكيف كان أيُّ تفكيرٍ وفهمٍ خارجَ فضاء الدين أو انشغالٍ بتعلّم شيءٍ غيرِ دينيّ يقلق الناس، لفرط ما ألفوه من احتكارِ الدين لفهمِ وتفسير ِكلّ شأنٍ ديني ودنيوي، إلى الحدّ الذي صار فيه الدينُ ونصوصُه بوابةَ الفهم والتفسير الوحيدة لكلّ شيءٍ في السماء والأرض، وأمست تفسيراتُه للاهوت والناسوت من البداهات الراسخة.
ولا يقتصر الأمر على المفكرين هنا. فالبشر بحاجة لـ «تاريخيين بلا حدود» من أجل إعادة قراءة شروط الحضارات التي سادت وتلك التي بادت. وهذا يتطلب التخلي عن اللهث وراء المال أو الشهرة، وهي أعلى درجات نكران الذات وإبراز الحقيقة. والصراع المحتدم في العالم حالياً يهدد باندلاع حرب نووية لا تبقي ولا تذر. ولذلك نحن البشر بحاجة لـ «إعلاميين بلا حدود» يوصلون الحقيقة ولو فقدوا وظائفهم. وبحاجة لـ «فنانين بلا حدود» يعيدون إنتاج المنظومات القيمية والأخلاقية الرفيعة التي تدهورت في ظل النظام الرأسمالي. الاختصار ليس مفيدا في هذا السياق، ولكن الصراع المحتدم الآن هو بين الإنسانية واللا إنسانية. وهناك الكثير ممن يفتخرون بابتعادهم عن الإنسانية وتشبثهم بـ «حيوانية» تدر عليهم أموالاً وشهرة. ولكن رحلة استعادة «الإنسانية» المسلوبة قد بدأت. وهذا ليس حلماً، ولكنني لا أستبعد نشوء مجموعات من البشر تستحق أن تسمى «إنسانية بلا حدود». ** ** - عادل العلي