فقال أولاً: { يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بي يدي اللَّه ورسوله} وهي تشمل طاعة الله تعالى ، وذُكر الرسول معه للإشارة إلى أن طاعة الله لا تعلم إلا بقول الرسول فهذه طاعة للرسول تابعة لطاعة الله. وقال ثانياً: { يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي} [ الحجرات: 2] لبيان الأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم لذاته في باب حسن المعاملة. وقال ثالثاً: { يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ} الآية للتنبيه على طريقة سلوك المؤمنين في معاملة من يعرف بالخروج عن طريقتهم وهي طريقة الاحتراز منه لأن عمله إفساد في جماعتهم ، وأعقبه بآية { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا} [ الحجرات: 9]. وقال رابعاً { يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم} [ الحجرات: 11] إلى قوله: { فأولئك هم الظالمون} [ البقرة: 229] فنهى عما يكثر عدم الاحتفاظ فيه من المعاملات اللسانية التي قلّما يقام لها وزن. وقال خامساً: { يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إلى قوله: تواب رحيم} [ الحجرات: 12] اه. يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله الى الذين عاهدتم. ويريد: أن الله ذكر مثالاً من كل صنف من أصناف مكارم الأخلاق بحسب ما اقتضته المناسبات في هذه السورة بعد الابتداء بما نزلت السورة لأجله ابتداء ليكون كل مثال منها دالاً على بقية نوعه ومرشداً إلى حكم أمثاله دون كلفة ولا سآمة.
ووَصْفُهم ب { الذين آمنوا} جار مجرى اللقب لهم مع ما يؤذِن به أصله من أهليتهم لتلقي هذا النهي بالامتثال. وقد تقدم عند الكلام على أغراض السورة أن الفخر ذكر أن الله أرشد المؤمنين إلى مكارم الأخلاق ، وهي إما في جانب الله أو جانب رسوله صلى الله عليه وسلم أو بجانب الفساق أو بجانب المؤمن الحاضر أو بجانب المؤمن الغائب ، فهذه خمسة أقسام ، فذكر الله في هذه السورة خمس مرات { يا أيها الذين آمنوا} فأرشد في كل مرة إلى مكرمة مع قسم من الأقسام الخمسة إلخ ، فهذا النداء الأول اندرج فيه واجب الأدب مع الله ورسوله صلى الله عليه وسلم تعرض الغفلة عنها. رضي الله عن والتقدم حقيقته: المشي قبل الغير ، وفعله المجرد: قَدُم من باب نصر قال تعالى: { يَقْدُم قومه يوم القيامة} [ هود: 98]. وحق قدم بالتضعيف أن يصير متعدياً إلى مفعولين لكن ذلك لم يرد وإنما يعدّى إلى المفعول الثاني بحرف على. يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله والمؤمنون. ويقال: قدَّم بمعنى تَقدم كأنه قدّم نفسه ، فهو مضاعف صار غير متعد. فمعنى { لا تقدموا} لا تتقدموا. ففعل { لا تقدموا} مضارع قَدَّم القاصر بمعنى تقدم على غيره وليس لهذا الفعل مفعول ، ومنه اشتقت مقدمة الجيش للجماعة المتقدمة منه وهي ضد الساقة.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) تفسير سورة الحجرات. مدنية بإجماع. وهي ثماني عشرة آية. بسم الله الرحمن الرحيم. يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم. فيه ثلاث مسائل: الأولى: قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله قال العلماء: كان في العربي جفاء وسوء أدب في خطاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وتلقيب الناس. فالسورة في الأمر بمكارم الأخلاق ورعاية الآداب. وقرأ الضحاك ويعقوب الحضرمي: ( لا تقدموا) بفتح التاء والدال من التقدم. الباقون تقدموا بضم التاء وكسر الدال من التقديم. ومعناهما ظاهر ، أي: لا تقدموا قولا ولا فعلا بين يدي الله وقول رسوله وفعله فيما سبيله أن تأخذوه عنه من أمر الدين والدنيا. ومن قدم قوله أو فعله على الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقد قدمه على الله تعالى لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - إنما يأمر عن أمر الله عز وجل. يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله امرا. الثانية: واختلف في سبب نزولها على أقوال ستة: الأول: ما ذكره الواحدي من حديث ابن جريج قال: حدثني ابن أبي مليكة أن عبد الله بن الزبير أخبره أنه قدم ركب من بني تميم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال أبو بكر: أمر القعقاع بن معبد.
وقال عمر: بل أمر الأقرع بن حابس.
وإن جاء رأس العام وقد تغير النصاب تبين أنها صدقة تطوع. وقال أشهب: لا يجوز تقديمها على الحول لحظة كالصلاة ، وكأنه طرد الأصل في العبادات فرأى أنها إحدى دعائم الإسلام فوفاها حقها في النظام وحسن الترتيب. ورأى سائر علمائنا أن التقديم اليسير فيها جائز; لأنه معفو عنه في الشرع بخلاف الكثير. وما قاله أشهب أصح ، فإن مفارقة اليسير الكثير في أصول الشريعة صحيح ولكنه لمعان تختص باليسير دون الكثير. فأما في مسألتنا فاليوم فيه كالشهر ، والشهر كالسنة. فإما تقديم كلي كما قاله أبو حنيفة والشافعي ، وإما حفظ العبادة على ميقاتها كما قال أشهب. الثالثة: قوله تعالى: لا تقدموا بين يدي الله أصل في ترك التعرض لأقوال النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وإيجاب اتباعه والاقتداء به ، وكذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في مرضه: مروا أبا بكر فليصل بالناس. تفسير آية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. فقالت عائشة لحفصة - رضي الله عنهما: قولي له إن أبا بكر رجل أسيف ، وإنه متى يقم مقامك لا يسمع الناس من البكاء ، فمر عمر فليصل بالناس. فقال - صلى الله عليه وسلم -: إنكن لأنتن صواحب يوسف. مروا أبا بكر فليصل بالناس. فمعنى قوله ( صواحب يوسف) الفتنة بالرد عن الجائز إلى غير الجائز.