إنّ طرائق التّعبير والأداء في القصيدة الجاهليّة الّتي اصطُلحَ عليها اسمُ عمودِ الشّعرِ بَقيت المنظار الّذي يُميّز فيه الرُّواة جيّدَ الشّعرِ من رديئه، ولمّا كانَ الشّعرُ الأُمويُّ لا يختلف في طبيعتهِ وموضوعَاتهِ عن الشِّعرِ الجَاهليّ لدرجة أنّ أبا عمرو بن العلاء قد همّ أنْ يأمُرَ صبيانَهُ بكتابته، فإنّ مَقاييس عمود الشِّعرِ ظلّت وافية بالغَرض. أمّا في العصر العبّاسي حين تبدّل الذّوق الأدبيّ، واتّسعتْ آفاقُ الشُّعراءِ بفضل الثّقافات الوافدة، وتنوّعت أساليبُ العصرِ، ثمّة طائفةٌ من الشّعراءِ أشاحت عن القَديم وتطلّعت إلى شيءٍ من التّميّزِ والتّجديد، واستطاعتْ أن تأتي بنوعيّةٍ أُخرى من الشِّعرِ قادرٌ على انتزاعِ الإعجابِ وتلبيةِ أذواق النّخبة من النّاس، فهذا أبو نُوّاس يتخصّصُ في موضوعِ الخَمر، وأبو العتاهية يتخصّصُ في الزّهد. ثُمّ إنّ بشّار بن برد وأبا نُوّاس ومُسلم بن الوليد رأوا هذه الأنواع الّتي تُسمّى بالبديع وهي « الاستعارةُ والطّباقُ والتّجنيس » منثورةً ومُتفرّقةً في أشعار المُتقدّمين فقصدوها وأكثروا منها، ثُمّ إنّ أبا تمّام حاولَ التّجديدَ في طبيعةِ الاستعَارةِ والطّباق، فأحسن في بعض ذلك وأساء في بعض.
عالم الأحلام و التأملات و تحقيق كل شيء في عالم اللاشيء. جرب أن تغمض عينيك لحظات، و تنسم عبير الزهور في الحديقة، أو ربما حاول لمس بتلات الأزهار (و لا تحاول قطفها إذا سمحت). اعمل كل ذلك ثم تناول قلماً و اكتب أي شيء يأتي إلى الخاطر.. إن صوغ الشعر جزء من الأحلام، و الشاعر لا بد أنه حالم. أحلام اليقظة، و حملقة في الفراغ فيما قد يبدو تصرفاً غريباً بالنسبة إلى البعض. حين يتنفس الدماغ.. و يتحرر العقل من قيود الواقع و قوالب المجتمع.. يكون الشعر ممكناً. والأوزان والقافية مهمان للشعر، لكنهما يستعملان بحذر، فإذا جاءت القافية- الموسيقى- بشكل عفوي كان بها، وإلا فلا ضرورة برأيي أن نضحي بالمعنى أو الصورة من أجل الوزن. القارئ وحده هو الذي يقرر كيف يفسر أو يفهم المعاني في القصيدة. كلام شعر حزين مؤلم جداً عن وجع الفراق بعد التعلق بالحبيب. و لا مبرر لأن يحاول الشاعر تفسير كل شيء، فتتحول القصيدة إلى موعظة أو نصاً إرشادياً مملاً. الشعر احترام لذكاء القراء وأذواقهم و يجب ترك مجال واسع لهم للتأويل. في الشعر وصف، و في الشعر سخرية، و في الشعر نقد، و في الشعر خواطر و تأملات. و مصادر الفكرة في الشعر متعددة، و هي وسائل الإلهام تأتي من الواقع، من الملاحظات أو المشاهدات اليومية، من الناس والأشياء الجميلة وغير الجميلة.
ما هو الشعر إن لم يكن لإثارة الأحاسيس الناعمة لدى كاتبه أو سامعه أو قارئه على حد سواء؟ ما هو الشعر إن لم يكن ذاك الشعور الفياض الذي يداعب عيون وآذان وعقول ووجدان البشر.. ليس كل البشر وإنما فقط أولئك الذين يملكون حظاً من الحس الموسيقي.. والحس اللغوي.. والقلوب التي تتوق لتذوق الجمال في مخلوقات الله. ما هو الشعر إن لم يكن مصدره ذلك اللغز العذب الذي يسمونه إلهاماً؟ وما إدراك ما الإلهام؟ وما هو الشعر إن لم يكن فناً كسائر الفنون.. لا يكون فناً بغير الجمال.. الذي يجذب حواس الإنسان.. إن تبقى لديه شيء منها. الشعر جمال وغموض محبب يبعث النشوة في القلوب.. شلال يتدفق من مشاعر الإنسان حين يحدث ذلك التفاعل الغريب المفاجئ بين عناصر الطبيعة وعناصر الإنسان وعناصر اللغة.. ولا يمكن في رأيي أن يكون الشعر شعراً إذا كان مباشراً ودقيقاً وصريحاً كقطعة مأخوذة من كتاب فيزياء.. لا يمكن أن يكون الشعر شعراً إلا إذا رافقه شعور بالاكتشاف.. و شعور بالحقيقة.. و لا يمكن أن يكون الشعر شعراً إلا إذا كان مدعوماً بوعي بواقع العالم ونظرة معينة للأشياء.. أو ربما ما نسميه ثقافة. الشعر محتوى والشعر شكل يتفاعلان فيخرج منهما سيمفونيات لغوية وأدبية وفنية رائعة تعبر عن ذكاء الإنسان وتميزه عن باقي المخلوقات.. الشعر والجمال والمتعة.. طاقة إبداعية خلاقة.. تتجلى فيها النفس ويكافئ الإنسان نفسه بما يقول أو يكتب لا يهمه ما يقوله الآخرون من نقد أو إطراء.. إنه مكافئة للذات.. من عناء العمل.. كلام عن الشعر الجاهلي. أو قل هروباً من أوقات الملل والرتابة.. وممارسة لصنع الكلمات الجميلة تنطق بالمشاعر الإنسانية الصادقة.. ولا أقصد هنا الشعر الذي يكتب تكسباً للمال أو الشهرة.. أو نفاقاً.. من نوع ما.