وقد تقدم أن معنى ذلك: أي لكان هذا القرآن. وقال تعالى: ( وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله) [ البقرة: 74].
عن أبي موسى الأشعري – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تَعَاهَدُوا هَذا الْقُرْآنَ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَهُوَ أَشَدُّ تَفَصِّيًا مِنَ الْإِبِلِ فِي عُقُلِهَا ". ان هذا القرآن يهدي للتي. * * * القرآن الكريم كتاب هداية ومنهج حياة، بين الله فيه للناس ما يجب لهم وما يجب عليهم، وما يحل لهم وما يحرم عليهم، وذلك في قواعد كلية يندرج تحتها كل ما جد ويجد من شئون الحياة، فما من صغيرة ولا كبيرة يحتاج الناس إليها إلا شملها تشريعه ووسعها بيانه. { كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} (سورة هود:1). وهو الكتاب المهيمن على سائر الكتب السماوية، جمع ما تفرق منها، وصحح ما حرفته الأيدي العابثة، وأظهر ما أنكرته القلوب المريضة، ورد إليها قداستها بعد أن استخفت بها النفوس الأمارة بالسوء وذلك بأسلوبه البياني المعجز. فعرف منه أهل الحق ما أدخله فيها أهل الباطل من زيف وضلال، فصار القرآن ميزاناً لهذه الكتب السماوية يزنون به ما جاء فيها من أحكام وأخبار، فما كان موافقاً له كان صحيحاً، وما كان مخالفاً كان رداً على من أتى به إذ الكتب السماوية كلها قد خرجت من مشكاة واحدة لتعبر عن دين واحد هو الإسلام.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (لَوْ أَنـزلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ)... الآية، يعذر الله الجبل الأصمّ، ولم يعذر شقيّ ابن آدم، هل رأيتم أحدًا قط تصدّعت جوانحه من خشية الله (وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ) يقول تعالى ذكره: وهذه الأشياء نشبهها للناس، وذلك تعريفه جلّ ثناؤه إياهم أن الجبال أشدّ تعظيمًا لحقه منهم مع قساوتها وصلابتها. وقوله: (لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) يقول: يضرب الله لهم هذه الأمثال ليتفكروا فيها، فينيبوا، وينقادوا للحق.
أما الذين كانوا يرون القرآن نقلاً من كلام الأولين، فهؤلاء لم نأخذ قولهم بمزيد عناية في هذا البحث، وقد ذكرهم القرآن وردَّ عليهم مقالتهم هذه؛ قال تعالى: ﴿ وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ﴾ [الفرقان: 5]، ثم قال في الرد عليهم: ﴿ قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [الفرقان: 6]. ومدار الحُجَّة في هذا الردِّ الموجز أن هذا القرآن العظيم تتضمَّن آياته من الإعراب عن أسرار الخلق والأمر في السموات والأرض، والكشف عن حقائق الفِطرة في الإنسان والأكوان - ما لا يحتمل أن تحوم عليه من أقصى أبعاده عقول البشر، ولا أن تَخطو إلى مشارفه أوهامهم فيما تَحتمِلُه معارفهم، فضلاً عن أساطيرهم، فذلك ما لا يستقلُّ بعلمه إلا فاطر السموات والأرض، الذي أودع فيهما أسرارهما.