زُهدُك في الدنيا هذا، وقرب الأجل عندك، تصدق، وابذل، واجلس على مصلاك، واذكر الله، وخل عنك الهجهجة وراء الدنيا ليل نهار، هذا هو الزهد في الدنيا، اطلبها من طريقها الصحيح، ودع عنك المشتبهات، هذا الزهد، أما التكالب على المشتبه والحرام، والليل والنهار سعي وراء هذه الدنيا، لا أهل يرونه، ولا يجلسون معه، ثم يعتبر الزهد وقصر الأمل بإعداد حنوط وكفن، البلدية تتكفل لك بهذا، ما تحتاج. القضية أن السلف ما كان من هديهم -وهم أزهد الناس- أن يعد الواحد منهم كفنه. طيب هل يحتج بهذا الحديث؟ الجواب: لا؛ لأن هذا الصحابي ما كان هو ولا الصحابة يعدون أكفانهم، إنما اتخذ ذلك؛ لأنه لامس جلد رسول الله ﷺ، فهذا فيه مزية، النبي ﷺ أعطى لابن عبد الله بن أبي بن سلول أعطاه قميصه ﷺ من أجل أن يُكفَّن به أبوه رأس المنافقين، مما يلي جسده. من كان معه ه. فيُتبرك بآثار رسول الله ﷺ من عرقه، ولباسه، فضلته، وما أشبه ذلك، أما غير النبي ﷺ فلا يتبرك به، لا يتبرك بآثار الصالحين. فهذا الحديث ليس فيه أنه اشترى كفناً ووضعه، وإنما أراد ذلك الذي مس جلد رسول الله ﷺ. والله تعالى أعلم. أخرجه البخاري، كتاب الجنائز، باب من استعد الكفن في زمن النبي ﷺ فلم ينكر عليه (2/ 78)، رقم: (1277).
فذكر من أصناف المال ما ذكر حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل ، وهذا يدل على طلب الشارع لمواساة المحتاجين، ولو أن الأمة طبقت مثل هذا لم يعد فيها فقير محتاج. في الحديث الذي قبله في الليلة قبل الماضية: طعام الواحد يكفي الاثنين، وطعام الاثنين يكفي الأربعة، وطعام الأربعة يكفي الثمانية [1] ، هذا في القناعة والتقلل، والاكتفاء بالقليل، وهنا في هذا الحديث الزيادة التي لا يحتاج إليها الإنسان يدفعها لمن يحتاج إليها. والحديث الذي بعده: وهو حديث سهل بن سعد : أن أمرأة جاءت إلى رسول الله ﷺ ببردة منسوجة، فقالت: نسجتها بيدي لأكسوكها، فأخذها النبي ﷺ محتاجا إليها، فخرج إلينا وإنها إزاره، فقال فلان: اكسنيها ما أحسنها! فقال: نعم فجلس النبي ﷺ في المجلس، ثم رجع فطواها، ثم أرسل بها إليه: فقال له القوم: ما أحسنت! القرآن الكريم - تفسير ابن كثير - تفسير سورة المؤمنون - الآية 91. لبسها النبي ﷺ محتاجا إليها، ثم سألته وعلمت أنه لا يرد سائلا، فقال: إني والله ما سألته لألبسها، إنما سألته لتكون كفني، قال سهل: فكانت كفنه. رواه البخاري والبردة كساء فيه خطوط أو كساء مربع، الشاهد جاءت بهذه البردة منسوجة، "فقالت: نسجتها بيدي لأكسوكها، فأخذها النبي ﷺ" فهي هدية، وكان من هديه ﷺ أنه يقبل الهدية، "أخذها ﷺ محتاجاً إليها"، وهذا القيد يدل على أن النبي ﷺ ما أخذها وهي زائدة عن حاجته، أو أخذها ليعطيها لأحد آخر، وإنما أخذها محتاجاً إليها.
الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه. أما بعد: فالجواب أيها السائل! ينبغي أن تعلم أن الشيء في ذمة أمثالك وأنت أعلم بالواقع، فإن كنت تعلم أن الحادث بأسباب سرعتك أو لأن الكفر رديء وأنت تساهلت في عدم إبداله، أو بأسباب أخرى فعليك الكفارة وعليك الدية أيضاً.
"فخرج إلينا وإنها لإزاره"، يعني: لبسها مباشرة ﷺ فاتزر بها. "فقال فلان" يعني: أحد الصحابة، بعضهم يقول: هو سعد بن أبي وقاص، وبعضهم يقول: هو عبدالرحمن بن عوف، وبعضهم يقول غير هذا، الشاهد "فقال فلان" وهنا لم يذكر اسمه؛ لأن هذا الصنيع منه لم يكن كما ينبغي في نظر أصحاب النبي ﷺ الذين حضروا ذلك المجلس، النبي ﷺ أخذها محتاجاً إليها. "فقال: اكسنيها ما أحسنها"، والنبي ﷺ ما يرد سائلاً، فقال: نعم، فجلس النبي ﷺ في المجلس" الذي خرج إلى أصحابه فيه. ثم رجع يعني: إلى بيته، "فطواها" لما ذهب إلى بيته أخذ هذه وطواها "ثم أرسل بها إليه، فقال له القوم: ما أحسنتَ، لبسها النبي ﷺ محتاجاً إليها ثم سألتَه، وعلمت أنه لا يرد سائلاً، فقال: إني والله ما سألته لألبسها إنما سألته لتكون كفني، قال سهل: فكانت كفنه" [1] ، رواه البخاري. من كان الله جل جلاله معه فقد سعد وفاز. يعني: أن هذا الرجل يقول: أنا ما طلبتها من أجل أن أستأثر بها على رسول الله ﷺ، ولا لحاجة إليها، وقد علمت أن النبي ﷺ كان بحاجة لها، إنما طلبتها من أجل أن تكون كفني. قال سهل: فكانت كفنه، هكذا كانت أخلاقه ﷺ، وهكذا كان إيثاره ومواساته.
وقال الإمام الشوكانيُّ رحمه الله: هذه المعيَّة التي أَوْضَحها الله بقوله: ﴿ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [البقرة: 153] فيها أعظم ترغيب لعباده سبحانه إلى لزوم الصبر على ما ينوب من الخطوب.