والشوط الثالث يكاد يلخص موضوعات السورة كلها. فينفي في أوله أن ما جاء به محمد [ صلى الله عليه وسلم] شعر ، وينفي عن الرسول كل علاقة بالشعر أصلاً. ثم يعرض بعض المشاهد واللمسات الدالة على الألوهية المتفردة ، وينعى عليهم اتخاذ آلهة من دون الله يبتغون عندهم النصر وهم الذين يقومون بحماية تلك الآلهة المدعاة!. ويتناول قضية البعث والنشور فيذكرهم بالنشأة الأولى من نطفة ليروا أن إحياء العظام وهي رميم كتلك النشأة ولا غرابة! ويذكرهم بالشجر الأخضر الذي تكمن فيه النار وهما في الظاهر بعيد من بعيد! وبخلق السماوات والأرض وهو شاهد بالقدرة على خلق أمثالهم من البشر في الأولى والآخرة.. وأخيراً يجيء الإيقاع الأخير في السورة: ( إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له: كن. تفسير سورة يس من 55 إلى 83. فيكون. فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون). والآن نأخذ بعد هذا العرض المجمل في التفصيل.. ( يس. تنزيل العزيز الرحيم. لتنذر قوماً ما أنذر آباؤهم فهم غافلون. لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون. إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً فهي إلى الأذقان فهم مقمحون. وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون. وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون.
﴿ وكل في فلكٍ يسبحون ﴾: وكل من الشمس والقمر وبقية الكواكب والنجوم تدور في الفضاء الواسع، غير مستندة إلى شيء، ولا ملتصقة بشيء. مضمون الآيات الكريمة من (28) إلى (40) من سورة «يس»: 1- تختم هذه الآيات القصة السابقة ببيان هوان هؤلاء الكافرين على الله، وأنه سبحانه وتعالى لم يكن في حاجة إلى إرسال ملائكة لتعذيبهم، وإنما سلط عليهم صوتًا هائلاً من السماء فأهلكهم عن آخرهم. 2- ثم تتحدث عن المكذبين بكل ملة ودين، وتعرض صورة البشرية الضالة على مر العصور، وتنادي على العباد نداء الحسرة والأسف؛ لأنهم لا يتعظون ولا يعتبرون بهلاك المكذبين. تفسير سورة يس - محمد بن صالح العثيمين - طريق الإسلام. 3- ثم تعرض هذه الآيات لبعض الآيات الكونية التي يراها الناس ولكنهم في غفلة عنها. 4- والذكر والأنثى في عالم النبات، وفي عالم الإنسان، وفيما لا نعلم من المخلوقات؛ ليتم التوالد والتكاثر بهذا التزاوج. 5- والشمس والقمر جعلهما يتحركان بنظام محكم مقدر، فلا تلحق الشمس القمر، كما أن الليل والنهار يتتابعان على ما نعلم من هذا النظام الدقيق في دوران الأرض حول نفسها أمام الشمس. دروس مستفادة من الآيات الكريمة من (28) إلى (40) من سورة «يس»: 1- ضرورة الاعتبار والاتعاظ بما حدث للأمم السابقة حتى لا يصيبنا ما أصابهم.
وبالمقابل أيضاً: وَآثَارَهُمْ [يس:12]، الناس الذين كتبوا الضلال والخبال وصدوا عن سبيل الله أيضاً مصائبهم في موازين سيئاتهم ما زالت تمضي، كل من ضل بسبب هذه الكتابات فهي في موازينهم، قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( من سن في الإسلام سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، لا ينقص ذلك من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، لا ينقص ذلك من أوزارهم شيء). الخصلة الثانية: (ودعاء نجل) كما في الحديث؛ ( أو ولد صالح يدعو له)؛ لأن الولد من كسبك، يعني: لو نشأته على مكارم الأخلاق وقيم الإسلام ومفاهيم الإيمان وعلمته الصلاة وحببته في القرآن، وبذلت جهداً في أن تقيمه على الصراط المستقيم، فما يعمله هذا الولد من عمل صالح هو أيضاً في ميزان حسناتك، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وإن ولده من كسبه)، ودعاء نجل. الخصلة الثالثة: (وغرس النخل)، فلو أن نخلة غرستها ثم بعد ذلك يأكل منها الإنسان والطير والحيوان، ويسرق منها ويؤخذ منها، كل ذلك في ميزان حسناتك، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فاستطاع ألا يقوم حتى يغرسها فليغرسها)، ديننا يشجعنا على الزراعة وعلى العناية بالخضرة ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً.
قال: من يحيي العظام وهي رميم? قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم.. هذه القضايا المتعلقة ببناء العقيدة من أساسها ، تتكرر في السور المكية. ولكنها تعرض في كل مرة من زاوية معينة ، تحت ضوء معين ، مصحوبة بمؤثرات تناسب جوها ، وتتناسق مع إيقاعها وصورها وظلالها. هذه المؤثرات منتزعة في هذه السورة من مشاهد القيامة - بصفة خاصة - ومن مشاهد القصة ومواقفها وحوارها. ومن مصارع الغابرين على مدار القرون. ثم من المشاهد الكونية الكثيرة المتنوعة الموحية: مشهد الأرض الميتة تدب فيها الحياة. ومشهد الليل يسلخ منه النهار فإذا هو ظلام. ومشهد الشمس تجري لمستقر لها. تفسير سوره يس ابن عثيمين. ومشهد القمر يتدرج في منازله حتى يعود كالعرجون القديم. ومشهد الفلك المشحون يحمل ذرية البشر الأولين. ومشهد الأنعام مسخّرة للآدميين. ومشهد النطفة ثم مشهدها إنساناً وهو خصيم مبين! ومشهد الشجر الأخضر تكمن فيه النار التي يوقدون! وإلى جوار هذه المشاهد مؤثرات أخرى تلمس الوجدان الإنساني وتوقظه: منها صورة المكذبين الذين حقت عليهم كلمة الله بكفرهم فلم تعد تنفعهم الآيات والنذر: ( إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً فهي إلى الأذقان فهم مقمحون ؛ وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً فأغشيناهم فهم لا يبصرون).