وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَىٰ (37) هذه إجابة من الله لرسوله موسى ، عليه السلام ، فيما سأل من ربه عز وجل ، وتذكير له بنعمه السالفة عليه ، فيما كان ألهم أمه حين كانت ترضعه ، وتحذر عليه من فرعون وملئه أن يقتلوه; لأنه كان قد ولد في السنة التي يقتلون فيها الغلمان. فاتخذت له تابوتا ، فكانت ترضعه ثم تضعه فيه ، وترسله في البحر - وهو النيل - وتمسكه إلى منزلها بحبل فذهبت مرة لتربطه فانفلت منها وذهب به البحر ، فحصل لها من الغم والهم ما ذكره الله عنها في قوله: ( وأصبح فؤاد أم موسى فارغا إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها) [ القصص: 10] فذهب به البحر إلى دار فرعون ( فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا) [ القصص: 8] أي قدرا مقدورا من الله ، حيث كانوا هم يقتلون الغلمان من بني إسرائيل ، حذرا من وجود موسى ، فحكم الله - وله السلطان العظيم ، والقدرة التامة - ألا يربى إلا على فراش فرعون ، ويغذى بطعامه وشرابه ، مع محبته وزوجته له
القذف مستعمل في معنى الإلقاء والوضع، ومنه قوله تعالى - وقذف في قلوبهم الرعب - وكذلك الرمي قال * غلام رماه الله بالحسن يافعا * أي حصل فيه الحسن ووضعه فيه، والضمائر كلها راجعة إلى موسى ورجوع بعضها إليه وبعضها إلى التابوت فيه هجنة لما يؤدى إليه من تنافر النظم. فإن قلت: المقذوف في البحر هو التابوت وكذلك الملقى إلى الساحل. قلت: ما ضرك لو قلت المقذوف والملقى هو موسى في جوف التابوت حتى لا تفرق الضمائر فيتنافر عليك النظم الذي هو أم إعجاز القرآن، والقانون الذي وقع عليه التحدي ومراعاته أهم ما يجب على المفسر. تفسير قوله تعالى: ولقد مننا عليك مرة أخرى. لما كانت مشيئة الله تعالى وإرادته ألا تخطئ جرية ماء اليم الوصول به إلى الساحل وألقاه إليه سلك في ذلك سبيل المجاز وجعل اليم كأنه ذو تمييز أمر بذلك ليطيع الأمر ويمتثل رسمه فقيل (فليلقه اليم بالساحل) روى أنها جعلت في التابوت قطنا محلوجا فوضعته فيه وجصصته وقيرته ثم ألقته في اليم، وكان يشرع منه إلى بستان فرعون نهر كبير، فبينا هو جالس على رأس بركة مع آسية إذا بالتابوت، فأمر به فأخرج ففتح فإذا صبي أصبح الناس وجها، فأحبه عدو الله حبا شديدا لا يتمالك أن يصبر عنه. وظاهر اللفظ أن البحر ألقاه بساحله وهو شاطئه لأن الماء يسحله: أي يقشره وقذف به ثمة فالتقط من الساحل، إلا أن يكون قد ألقاه اليم بموضع من الساحل فيه فوهة نهر فرعون ثم أداه النهر إلى حيث البركة (منى) لا يخلو إما أن يتعلق بألقيت فيكون المعنى على أنى أحببتك ومن أحبه الله أحبته القلوب، وإما أن يتعلق بمحذوف هو صفة لمحبة: أي محبة حاصلة أو واقعة منى قد ركزتها أنا في القلوب وزرعتها فيها فلذلك أحبك فرعون وكل من أبصرك.
قال الشاعر: نال الخلافة إذ كانت له قدرا كما أتى ربه موسى على قدر وكلمة ثم المفيدة للتراخي للدلالة على أن مجيئه عليه السلام كان بعد مدة ، وذلك بسبب ما وقع له من ضلال الطريق وتفرق غنمه ونحو ذلك. واصطنعتك لنفسي الاصطناع: اتخاذ الصنعة ، وهي الخير تسديه إلى إنسان ، والمعنى: اصطنعتك لوحيي ورسالتي لتتصرف على إرادتي. قال الزجاج: تأويله اخترتك لإقامة حجتي ، وجعلتك بيني وبين خلقي ، وصرت بالتبليغ عني بالمنزلة التي أكون أنا بها لو خاطبتهم واحتججت عليهم. ولقد مننا عليك مرة أخرى. قيل وهو تمثيل لما خوله الله سبحانه من الكرامة العظمى بتقريب الملك لبعض خواصه. اذهب أنت وأخوك أي وليذهب أخوك ، وهو كلام مستأنف مسوق لبيان ما هو المقصود من الاصطناع ومعنى بآياتي بمعجزاتي التي جعلتها لك آية ، وهي التسع الآيات ولا تنيا في ذكري أي لا تضعفا ولا تفترا ، يقال ونى يني ونيا: إذا ضعف. قال الشاعر: فما وني محمد مذ أن غفر له الإله ما مضى وما غبر [ ص: 910] وقال امرؤ القيس: يسيح إذا ما السابحات على الونى أثرن غبارا بالكديد الموكل قال الفراء: في ذكري وعن ذكري سواء ، والمعنى: لا تقصرا عن ذكري بالإحسان إليكما ، والإنعام عليكما وذكر النعمة شكرها. وقيل: معنى لا تنيا لا تبطئا في تبليغ الرسالة ، وفي قراءة ابن مسعود ( لا تهنا في ذكري).
شكرا لدعمكم تم تأسيس موقع سورة قرآن كبادرة متواضعة بهدف خدمة الكتاب العزيز و السنة المطهرة و الاهتمام بطلاب العلم و تيسير العلوم الشرعية على منهاج الكتاب و السنة, وإننا سعيدون بدعمكم لنا و نقدّر حرصكم على استمرارنا و نسأل الله تعالى أن يتقبل منا و يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم.