إذن هذا دليلٌ وحجة عليهم أنهم جعلوا جنس الحكم بغير ما أنزل الله من الكفر الأكبر أو من المعاصي ؟ من المعاصي وإن كفّروه ؛ وإن نحّى الشريعة في جزئيةٍ واحدة. لذلك هذا يجرّهم إلى قاعدة الخوارج ؛ الآن أنت في بيتك ظلمت إبناً من أبنائك هل حكمت بما أنزل الله في هذا الولد؟, هل تكفّره؟.
فمسألة الحكم بغير ما أنزل الله في حقيقتها تتعلق بمن يملك السلطة والاختصاص في تسيير المجتمع الإسلامي في محيطه، بما يتوافق مع مقاصد الدين الكلية وقواعده الكبرى، ولا تتعلق بعامة الناس وآحادهم، وهذا ما أدركه مؤسسو الدولة السعودية منذ نشأتها، وذلك لأن ترك مثل هذه المسائل العظام للعامة وأحداث الأسنان وأنصاف المثقفين أن يخوضوا فيها، هو مدعاة لإنتاج فكر متطرف يُدمر البلاد والعباد، وما نراه من حولنا من دمار شامل وتحطيم يقيني لدول كانت ثم زالت واضمحلت، إلا خير شاهد ودليل على أن الإخلال بفهم وتصور وتكييف هذه المسألة، لهو مسار لا محيد عنه في طريق الوصول بالبلاد للدمار وفقدان الأمن والأمان والعيش الرغيد.
- الثاني: أن يستبدل بحكم الله تعالى حكماً مخالفاً له في قضية معينة دون أن يجعل ذلك قانوناً يجب التحاكم إليه فله ثلاث حالات: * الأولى: أن يفعل ذلك عالماً بحكم الله تعالى معتقداً أن ما خالفه أولى منه وأنفع للعباد، أو أنه مساو له، أو أن العدول عن حكم الله إليه جائز فهذا كافر كفراً مخرجاً عن الملة لما سبق في القسم الأول. * الثانية: أن يفعل ذلك عالماً بحكم الله معتقداً أنه أولى وأنفع لكن خالفه بقصد الإضرار بالمحكوم عليه أو نفع المحكوم له، فهذا ظالم وليس بكافر وعليه يتنزل قول الله تعالى: { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون}. * الثالثة: أن يكون كذلك لكن خالفه لهوى في نفسه أو مصلحة تعود إليه فهذا فاسق وليس بكافر، وعليه يتنزل قول الله تعالى: { ومن لم يحكم بما أنزل فأولئك هم الفاسقون}. وهذه المسألة أعني مسألة الحكم بغير ما أنزل الله من المسائل الكبرى التي ابتلي بها حكام هذا الزمان، فعلى المرء أن لا يتسرع في الحكم عليهم بما لا يستحقونه حتى يتبين له الحق، لأن المسألة خطيرة، نسأل الله تعالى أن يصلح للمسلمين ولاة أمورهم وبطانتهم، كما أن على المرء الذي آتاه الله العلم أن يبينه لهؤلاء الحكام لتقوم الحجة عليهم وتبين المحجة، فيهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حي عن بينة، ولا يحقرن نفسه عن بيانه، ولا يهابن أحداً فيه فإن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، والله ولي التوفيق.
حدثنا قتادة، عن أنس، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال: ((لا عَدْوى، ولا طِيَرةَ، ويُعجِبني الفألُ: الكلمة الطيِّبة، الكلمة الحسنة))؛ هذا حديث متَّفق على صحَّته، أخرجه مسلم. وعن عكرمة، عن ابن عباس، قال: "كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يتفاءَلُ، ولا يتطيَّرُ، كان يحبُّ الاسمَ الحسَنَ". كتاب: اتباع مناهج أهل السنن والآثار.. شرح سواطع الأنوار لمعرفة عقيدة سيد الأبرار
ويقول سبحانه: ﴿ وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ﴾ [النساء: 115]. ثم يبيِّنُ - سبحانه وتعالى - زَيْفَ زَعْمِ مَن يدَّعي الإيمانَ ويريد التحاكمَ إلى الطاغوت فيقول: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا ﴾ [النساء: 60، 61]. الطاغوتُ في اللغة مشتقٌّ من الطغيان، وهو مجاوزة الحد، ومجاوزة الحقِّ إلى الباطل، ومجاوزة الإيمان إلى الكفر، وما أشبه ذلك، والطواغيت كثيرون، وكلُّ طاغوت فهو كافر بلا شك. والطواغيت كثيرون، ولكن رؤوسهم خمسة، كما ذكر ذلك العلاَّمةُ ابن القيِّم وغيره. الأول: إبليس لعنه الله؛ فإنه رأسُ الطواغيت، وهو الذي يدعو إلى الضَّلال والكُفر والإلحاد، ويدعو إلى النار، فهو رأسُ الطواغيت.
ويكون ظالما: إذا اعتقد أن الحكم بما أنزل الله أحسن الأحكام، وأنه أنفع للعباد والبلاد، وأنه الواجب تطبيقه، ولكن حمله البغض والحقد للمحكوم عليه حتى حكم بغير ما أنزل الله; فهو ظالم. ويكون فاسقا: إذا كان حكمه بغير ما أنزل الله لهوى في نفسه مع اعتقاده أن حكم الله هو الحق، لكن حكم بغيره لهوى في نفسه; أي: محبة لما حكم به لا كراهة لحكم الله ولا ليضر أحدا به، مثل: أن يحكم لشخص لرشوة رشي بها، أو لكونه قريبا أو صديقا، أو يطلب من ورائه حاجة، وما أشبه ذلك مع اعتقاده بأن حكم الله هو الأمثل والواجب اتباعه; فهذا فاسق، وإن كان أيضا ظالما، لكن وصف الفسق في حقه أولى من وصف الظلم. انتهى. والله أعلم.